قُبلة… على الشِّفاه…

Views: 676

لميا أ. و. الدويهي

«هو اللسان، أصغرُ عضو في جسم الإنسان، يستعملهُ لينطُقَ بهِ فيُمجدِّ الإله أو يلعنَ أخاه الإنسان»… هو نيرانٌ آكلة قد يُوقدُ نارًا حاقدة أو يُضرمُ قلوبًا باردة بكلمة، وحتَّى بهمسة… هو مَسكِنُ هذه الكلمة الأخير، هو مسؤولٌ عنها، لا تخرجُ بدونِ إذنِه، فهو بابُ العبور لكُلِّ الكلمات مهما كان نوعها… وإمَّا تكونُ سهمًا فتَّاكًا وإمَّا دواءً شافيًا…

طبعًا كلّ الأعضاء يجبُ أن تكونَ طيِّعة للإرادة، إن كان ذلك مُمكنًا، والقلبُ الرَّحوم المُعرَّف عنهُ بمُصطلحاتِنا الشَّعبيَّة بالـ«قلب الطيِّب» هو مَصدر الكلمة ومنبعها، «فليس ما يدخلُ إلى جوفِ الإنسان يُدنِّسُهُ بل ما يخرجُ منهُ، لأنَّ مَصدرَه القلب»… وعندما ذكرتُ بأنَّ اللسان هو المسؤول، خطرت لي صورةٌ فيها الأعضاء تُشبهُ العُمَّال في حقلٍ ما، وكُلُّ عضوٍ يقومُ بالمهامِ المُوكلة إليه، ومهمَّةُ اللسان الحفاظ على مستوى الكلام… وهذا لا ينفي أنَّنا أحيانًا نستعملُ بعض الكلمات النَّابية… لذا يجبُ أن يكونَ ذلكَ فقط لوصفِ حالة أو ظرف وليس لنسبِها لإنسان… فببعضِ الأحيان، لا تستطيعُ كلمات تلطيفَ بعض المواقف، بل يجبُ تحديدها بما يُشبهها وإلَّا نكون خدَّاعين، مُرائين، وحتَّى مُزيَّفين بتعابيرِنا… وهنا أفهمُ، نوعًا ما «غضب» السيِّد المسيح في الهيكل، عندما قلبَ موائد الصيَّارفة… أظنُّ أنَّهُ بردِّ فعلِه هذا أراد أن يُفسِّرَ بالفعل مدى قُبحِ عملهم، وليسَ لأنَّهُ «فقدَ أعصابه» كما يظنُّ البعض، لتبريرِ الغضبِ الشَّخصيّ في مواقف مُعيَّنة…

هذا الفم، بهِ نُعبِّرُ عن أصدقِ مَشاعرنا، فيتفاعلُ بالتالي كلّ الجسد… النَّظرة تتغيَّرُ وتُصبحُ دافئة، وكذلك نبرة الصَّوت، وحتَّى الكيان يرتجفُ… بحسب الشخص الذي نتشاركُ وإيَّاه بها، وإذا ما كنَّا نتحدَّثُ عن مشاعرَ بينَ حَبيبَن، فمن البديهي أن تأتيَ القبلة على الشِّفاه كتعبيرٍ لهذا الحب… ولكن، هل القبلة هي مجرَّدُ أمرٍ تلقائي بين اثنين؟ هل هي علامةٌ للحبِّ بينهما؟ لرغبة؟ لحسٍّ شهوانيّ؟ أو حتَّى جنسيّ بَحت؟… البعض وربَّما الأكثريَّة سيُعلِّقون: هي نتيجةٌ طبيعيّة مهما كانت، فلماذا محاولة تفسير الأمور و«فزلكتها»؟…

لكلٍّ منَّا الحقّ بإبداء رأيهِ، بحسبِ خبرتهِ ورؤيتهِ… وأمَّا أنا فأرى أبعدُ من ذلك بكثير… القبلةُ على الشِّفاه، هي «عهدٌ» يبتُّهُ العشَّاق بينهم… فمنها يلجُ الحبيب إلى عُمقِ الآخر، إلى روحِهِ، إلى كيانِهِ، ومن خلالها يتَّحدُ بهِ، بالصَّميم، فيغدو الاثنان واحدًا… هي أعمقُ من فعلٍ عادي… هي تحتاجُ العفويَّة والتلقائيَّة صحيح، ولكن متى تمَّت وجبَ أن يكونَ منبعها الرُّوح التي تَتوقُ إلى الاستقرار في روح الآخر حتَّى التَّلاحم… هي تتمّ عبرَ هذا الفمّ الذي بهِ نُعبِّرُ عن عمق أحاسيسنا وننطُقُ من خلاله بأشهى كلمات الحبّ… أفلا تكونُ إذًا القبلة التي تخرجُ منه هي عهد؟!… أنا لا أتحدَّثُ عن العلاقة التي أصبحت مُشرَّعة لأنَّها «طبيعة الإنسان» وحقٌّ له، وهذا ما لا أنكرُهُ، فكلٌّ منَّا حُرٌّ بخياراتِه… وإنَّما أتحدَّث عن قُدسيَّة هذه المشاعر، فحتَّى الرَّغبة بالآخر والشَّهوة تُصبحان مُقدَّستَين متى كانت المشاعر حقيقيَّة فتغدوان بدورهما نتيجة طبيعيَّة للحبّ… أفلا يستحقُّ منَّا هذا الآخر أن نحفظَ كيانَنا له ونُقدِّسَهُ لأجلِه؟ ألا يستحقُّ مَن أُعطيَ الحق بأن «يُسلَّطَ» على هيكلِ جسدنا والمُسلَّطُونَ نحن  بدورِنا على هيكلِ جسده- ويعني التسلُّط هنا عدم الخيانة والحفاظ على الأمانة الزوجيَّة- الذي من خلالِه يتمجَّدُ الحبّ ويُعانقُ اثنَين، بأن نحفظهُ له نقيًّا؟… لو لو يكن الأمرُ كذلك، لماذا قدَّس السيِّد المسيح الزواج في «عرس قانا» ومن ثمَّ جعلتهُ الكنيسة «سرًّا من أسرارها»؟… لا ليس للجمِ الأشخاص، بل ليَعوا أهميَّة قُدسيَّة الاتِّحاد بين قلبَين شاءا أن يُقدِّسا علاقتهما بثالوثٍ يكونُ ثالثًا لهما ليستطيعا الاستمرار في هذه الحياة، التي ليست سوى أحمالٍ تهونُ فقط، متى عرفنا كيف نتشاركها، لأنَّ مَن نُحبّ يَسندُنا ويدعمُنا، ومجرَّد وجوده بحدِّ ذاتِه في حياتِنا هو مَصدر فرح حقيقيّ لنا…

أعتقد لو لم يكنِ الإنسان يُخطئ بمشاعره وأحاسيسه، لما كان من مانع من العلاقات العابرة، إلَّا أَّنَّها وفي كلِّ مرَّة تنتهي، تأخذُ منه جزءًا، فما الذي سيتبقَّى من ذاتِ الإنسان لذاتِه قبل ذات الآخر؟… لستُ أعظ ولا أشيرُ على أحدٍ كيف يحيا حياته وعلاقاته وإنَّما وددتُ تسليط الضَّوءعلى أهميَّة قُدسيَّة الحبّ متى وُجدَ بين اثنَين، وأعتقدُ أنَّ مَن اختبرَ ما أقول يُوافقُني الرَّأي المبنيٍّ على شهاداتٍ حيَّة كان لي الحظ بأن أشهدَ عليها كي أستطيعَ أن أبنيَ حُكمًا صائبًا، لا يكونُ مرجعُه فقط تعاليم الكنيسة التي أتبع وإنَّما أيضًا وقائع شهدتُها أمامي… والتَّجارب الفاشلة أيضًا التي شهدتُها في حالاتٍ أخرى، كان لها الدور الأكبر في تأكيد ما أقول: فالنَّقص في الاتحاد والرؤية الواضحة والمُشتركة هي من الأسباب المباشرة لاندثار العلاقات…

ولا أنوي هنا الحديث عن طرق للعلاج ولا النتائج ولا حتَّى أُنظِّر وإنَّما أحاول أن أردَّ الأشياء إلى أصلها، إلى عُمقِها، إلى جوهرها، بل إلى قُدسيَّتها، فالله لم يخلق أيَّ شيءٍ ناقص وإنَّما طريقة الإنسان بالتَّفاعل تُقدِّس أو تُدنِّس عطيَّة الإله المجَّانيَّة مهما كانت… 

٤/ ٣/ ٢٠٢٠

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *