كلمة “خطيئة”

Views: 606

قلت لوالدي: أنت تعرف أنّني لا أحبّ الاختلاط بالناس، منذ أن نقش القاضي كلمة “خطيئة” على جبهتي، فأصبحت أخجل من الظهور. وكلّما نظرت إلى المرآة أضطرب من نفسي، وأندم على تلك الساعة التي أحببت فيها امرأة، وأكلت من ثمار الشجرة المحرّمة.

لكنّ والدي أصرّ على طلبه، وزوّدني ببعض المال، وقال لي: الناصرة قرية جميلة، وفيها قوم طيّبون. أمّا ذلك الرجل الذي يقول إنّه إنسان وإله في وقت واحد، فعجائبه كثيرة، وهو يشفي المرضى، ويقيم الموتي… وقد تصبح أنت من أتباعه، وتعرف الله حقيقة على يده.

وصلت إلى الناصرة في يوم شتائيّ، وكان البرد شديداً في تلك الأيّام. وما إن بلغت ساحة الهيكل حتّى رأيت جمعاً، فاقتربت من الجمع، وأبصرت شابّاً في مقتبل العمر، يخطب في الناس، ويحدّثهم عن محبّة الأعداء، والسلام والمغفرة، وهم يسمعون بشغف. وكانت تلك الفضائل قد اندثرت بعد أن شاعت الحروب والفتن، وعمّ الفقر، وتناحر البشر على لقمة الخبز.

وقد أسَرني تواضع الشابّ وسحر طلعته، وابتسامة لا تفارق وجهه. وتذكّرت ما قرأته في الكتب القديمة عن ملك يشبهه، لكنّه ليس ملكاً مثل الملوك الآخرين، بل يحكم على الرعيّة بالحكمة، وسألت نفسي: لو لم يكن هذا الشابّ صادقاً، فلماذا تنبّأت به الكتب قبل أن يولد بكثير من السنين؟

سمعت كثيراً من المواعظ، ورأيت بنفسي عجائب لا تخطر في بال، وكنت أمام منزل أليعازر، عندما رأيته يخرج إلى السوق، وقد نفض عنه غبار الموت… فدهش أهل القرية وسألوا: أليس هذا هو أليعازر الذي بكيناه قبل أيّام؟

وكانت لي فرصة أن أسأل الناصريّ عن خطيئتي، فنهرني بعض أتباعه، لكنّه قرّبني منه وقال لي: أنت غريب عن هذه الديار، ولم أرَ لك وجهاً من قبل، فهل أتيت من ساحل فينيقيا؟

أجبتُ: نعم يا سيّدي. لقد أرسلني والدي لأعرف عنك، ونحن قوم نعبد الآلهة القديمة ونقدّم لها الذبائح، وقد نقش القاضي كلمة “خطيئة” بحبر لا يزول على جباهنا.

قال: رأيت ذلك… فلا تخف. ليست الخطيئة وحدها سبباً لهلاك الناس، وليس هناك على هذه الأرض من هو بغير ذنب. ولو كان جميع البشر ملائكة لما رأيتَني هنا… وصدقاً أقول لك إنّه ليس من حبر لا يزول كما أنّه ليس من موت لا يزول. عد إلى قومك واخبرهم بما سمعته وشاهدته، وأنا سأمضي إلى أورشليم لكي يتمّ ما قاله الكتاب.

ابتعدتُ مسافة خطوتين قبل أن يغلبني فضولي، فالتفتّ لأسال الشابّ: هل أنت نبيّ؟

رسم خطوطاً على التراب، وقال لي: كلّ الأنبياء ولدوا من رجل وامرأة، فهل رأيتني ولدت كما ولد الآخرون؟ وهل قرأت أنّهم أقاموا الموتى؟ وهل تكلّموا وهم أطفال صغار في مهودهم؟

كان ذلك آخر ما سمعته من الناصريّ، قبل أن عود إلى الفندق الصغير الذي أقيمُ فيه، فمكثت هناك مدّة قصيرة، حتّى سمعتُ أنّ ابن الإنسان قد حُكم عليه بالموت. فحزنت عليه، وبكيت كثيراً… وقرّرت أن أعود إلى بلادي. وقبل أن أخرج من الفندق، نظرت في المرآة، فإذا كلمة “خطيئة” قد امّحت عن جبهتي.

________

(*) جميل الدويهي “مشروع أفكار اغترابية” للأدب المهجريّ الراقي – سيدني 2020

(*) من الكتاب الفكريّ الرابع “هكذا حدّثتني الروح”

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *