كورونا وأزمة تعطُّل العقل الإنسانيّ

Views: 455

أ.د. مشير باسيل عون

يتعطّل العقلُ الإنسانيّ في وجوه شتّى. فإمّا أن يصيبه الشللُ البيولوجيّ، وإمّا أن تسيطر عليه أهواءُ الغرائز الأنانيّة الخبيثة، وإمّا أن يهيمن عليه التصلّبُ الإيديولوجيّ، وإمّا أن تروّضه الغيبيّاتُ المترجرجة والصوفيّاتُ الرخوة والوجدانيّاتُ الضبابيّة. يجرّ مثل هذا التعطّل على الإنسان ويلات الاغتراب الكيانيّ، والتغرّب الذاتيّ، والغربة الوجوديّة. فإذا بالكائن البشريّ السليم السويّ يتحوّل إلى كتلة آليّة حيّة تسيّرها الأحوالُ الضاغطة، والتصوّراتُ السائدة، والأحكامُ المستبدّة. إنزعِ العقل عن الإنسان، فإذا به يتحوّل إلى آلة همجيّة، وجسد غريزيّ، وساحر مشعوذ، وراقص مُنتشٍ يترنّح على أمواج الأوهام.

الفيلسوف الألمانيّ يورغِن هابرماس

 

لا ريب في أنّ مشكلة العقل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطرُق تعيين هويّة الإنسان. وهي طرُقٌ تتنوّع بتنوّع البيئات التراثيّة، والتقاليد الاجتماعيّة، والتصوّرات الفكريّة، والأنظومات الإيديولوجيّة، والمذاهب الدِّينيّة. لكلّ فضاء فكريّ تعريفٌ يجعل العقل إمّا سلطةً عليا بها ينتظم الكيانُ الإنسانيّ بأسره، وإمّا شريكًا مساويًا الملَكاتِ الذاتيّة الأخرى، وإمّا أداةً خاضعةً تقودها ملَكةٌ من الملَكات، كالوجدان أو العاطفة أو الإحساس أو الحدس. أمّا الأمر الثابت في هذا كلّه، فهو أنّ العقل ينبغي أن يكون وحده ميزان الاستقامة، ومقياس الصحّة، وقسطاس الوضوح، ومحكمة الإصابة، ونور الموجودات والأشياء والكائنات.

ومن ثمّ، فإنّ الحضارات الإنسانيّة حين تتقابل وتتعارض وتتواجه، فيزِن بعضُها خصوصيّةَ بعضها الآخر بميزان الأداء الإنسانيّ السليم، والأمانة الكيانيّة الموضوعيّة، والانتظام الاجتماعيّ الفاعل، والرقيّ الأخلاقيّ، إنّما تتفحّص مقام العقل ووظيفته وأثره وفعله الناشب في تضاعيف الوجود الإنسانيّ. يأتي العقلُ أوّلًا، ومن ثمّ تنبسط الملَكاتُ الأخرى، وقد ائتمرت بأحكام العقل السليم. فالمجتمعات بعقول أهلها، والحضارات ببصائر أقوامها، والتاريخ بحكمة أبنائه. أمّا القرارات المصيريّة العظمى، فإنّ المجتمعات الإنسانيّة المتّكلة على عقول أبنائها السليمة هي التي تتخيّر منها ما يلائم خير الناس كلِّهم في جميع أبعاد حياتهم، ومتطلّبات وجودهم، ومقتضيات سويّتهم وأمنهم وهنائهم وسعادتهم.

أعتقد أنّ أزمة الكورونا أتت تفضح الالتواءات التي ابتُلي بها العقلُ البشريّ قبل انفجار العدوى وإبّان عدوانها وفي إثر استفحال عواقبها الفتّاكة. ما انفجرت العدوى إلّا لأنّ العقل الإنسانيّ تَعطّل تعطّلًا جسيمًا، وما استفحلت عواقبُ الكورونا إلّا لأنّ العقل ما برح متعطّلًا. في النوع الأوّل من التعطّل إصرارٌ على استخدام العقل في تطوير جانبٍ من جوانب الوجود الإنسانيّ، عنيتُ به النشاط التكنولوجيّ الاقتصاديّ في أقصى اندفاعاته الإنتاجيّة والاستهلاكيّة. في النوع الثاني من التعطّل تشبّثٌ انتحاريٌّ بالأنانيّات الجماعيّة المؤدلجة المتنافسة المتقاتلة على ساحة الإفناء الكونيّ.

يساعدنا الفيلسوف الألمانيّ يورغِن هابرماس (1929-….) على إدراك عِبَر التعطّل الأوّل والتعطّل الثاني. ذلك بأنّ مشروعه الفكريّ يقوم على انتقاد العقل الأداتيّ، الآليّ، الروبوتيّ، الوظيفيّ، الاستغلاليّ، وتأهيل العقل التشاوريّ، السليم، المنفتح، التهذيبيّ،البنّاء. هو العقل عينُه موضعُ الخطر الأعظم ومنارةُ الخلاص الأرقى. فالحداثة الغربيّة ليست، في نظره، مشروعًا فاشلًا، وليست طورًا من أطوار الجنون الإنسانيّ. إنّها حداثة العقل المستنير الذي يستطيع أن يصحّح ويقوّم ويهذّب ويعالج ويستدرك ويتخطّى ويبتكر. لذلك يرفض هابرماس نغمة النحيب، ويتجنّب كلّ قول اعتباطيّ يدين الحداثة ويسخّفها ويدعو إلى دفنها وتجاوزها. 

 

أعظم ما في الحداثة الغربيّة أنّها تستطيع أن تنتقد ذاتها من غير وجل أو ارتباك؛ لا بل الانتقاد الذاتيّ هو عينُ الحداثة الأُروبّيّة. فالكورونا أتى على الناس من جرّاء تأزّم العقل الغربيّ الذي أسرف في إخضاع الموجودات والأشياء والكائنات لسلطة الإنتاج المتزايد. لذلك يستطيع عقلُ الحداثة عينُه أن يعالج التعطّل الأوّل بقوّته الحكيمة الذاتيّة التي تتجاوز انسدادات الفهم الآليّ التكنولوجيّ المحض، عوضًا من البحث عن حلول ضبابيّة تُذلّ العقلَ، وتقضي على الحداثة، وتميت الإنسان شرَّ ميتة. وكذلك عقل الحداثة أيضًا يستطيع أن يعالج التعطّل الثاني على قدر ما يستنهض في فضيلة الشورى الإنسانيّةطاقاتِالتضامن المعرفيّ، والتقابس القيَميّ، والتبادل الاختباريّ، والتسامر الوجدانيّ. 

في أصل أزمة الكورونا تعطّلٌ يصيب مقام العقل، وأيضًا قدرةٌ للعقل عينه على تصويب الأمور وضبط الاندفاعة الإنتاجيّة الاستثماريّة التي يزخر بها المسعى العقليّ الرامي إلى التحقّق التاريخيّ الذاتيّ. في عاقبة أزمة الكورونا تعطّلٌ آخر يجعل الأنانيّات المستفحلة تتعارك على الاستئثار بمنافع الضرر الكونيّ الذي أصاب الجميع. فإذا بالتوحّد العقليّ الانعزاليّ قادرٌ على أن يتحوّل إلى معترك نقاشيّ تشترك فيه جميع الحضارات والثقافات والبيئات والمجتمعات والتيّارات والمذاهب والمدارس. في التعطّل الثاني أيضًا قدرةٌ على المعالجة الشاملة.

بيد أنّ معالجة الكورونا يجب أن تتجاوز حدود التناول العلميّ المحض. فالمعالجة الكورونيّة إمّا أن تكون حضاريّة، وإمّا أن تسقط في انغلاقات التعطّل الأداتيّ الأوّل. لذلك لا يجوز أن يتناقش الناسُ في الكورونا تناقشًا متفلّتًا من كلّ أحكام التلاقي الإنسانيّ وضوابطه ومعاييره ومُنسلكاته. يصرّ هابرماس في هذا السياق على التقيّد بأربعة مبادئ كبرى من أجل النجاح في مسعى المناقشة الواعية، الراقية، المثمرة. المبدأ الأوّل هو القدرة الذاتيّة والسويّة الكيانيّة. فكلُّ إنسان قادرٍ، سليمِ الوعي، صحيحِ المبنى العقليّ، يجوز له أن يشترك في المناقشة. المبدأ الثاني هو الحرّيّة والمساواة، إذ إنّ كلّ إنسان قادرٍ سويّ له الحقّ عينه في استثارة المسألة التي يستصوبها ويستعظم أمرها، وله الحرّيّة نفسها في تسويغ الخلاصات التي يُفضي إليها والدفاع عنها والانتصار لها. المبدأ الثالث هو الصدق، إذ إنّ كلّ إنسان قادرٍ سويٍّ حرٍّ يجب أن تنطوي مقاصدُه على أنقى الاستعدادات، وأطهر الرغبات، وأجمل المشاريع، وأبهى التطلّعات. فلا يشترك في المناقشة من يضمر الشرّ، ويعقد غيبَ ضميرِه على الغدر، ويتعمّد الكذب والنفاق، ولا يثبت على عهد.

أمّا المبدأ الرابع، فيخرج من دائرة الصفات الثلاث التي ينبغي أن يتحلّى بها الناس المتناقشون، ويتناول طبيعة المسائل والخلاصات والأحكام التي يمكن أن يجمع عليها أهلُ الحوار. يعتقد هابرماس أنّ كلّ قاعدة مسلكيّة ينبغي أن يقبل بها جميع المتشاورين قبولًا يجعلها تتّصف بصفة الكونيّة الشاملة في منطوياتها النظريّة، ومُستتلياتها العمليّة، ونتائجها الفعليّة. وكلّ ما لا يقبل به الناسُ قبولَ الإجماع يجب أن يسقط. شأنها في ذلك شأنُ الواجب الأخلاقيّ الكونيّ الذي عقده الفيلسوف الألمانيّ كانط (1724-1804) على نصرة الواجب بما هو واجبٌ، بمعزل عن التسويغات والتبريرات والميول والغايات والمقاصد والنتائج. أمّا القلّة الخبيثة التي ترفض تدابير الخير الموضوعة لجميع الناس في المسكونة، فيجب عليها أن تقنع الناس المجمعين على الصلاح بنزاهة نيّاتها، وبصوابيّة رفضها، وبجدارة طرحها المخالف.

 

وعليه، فإنّ تشاور الناس في أزمة الكورونا وفي جميع الأزمات الكيانيّة التي تعصف بالحياة الإنسانيّة، يجب أن يُبنى على أساس الاستعدادات الذاتيّة التشاوريّة الثلاثة، وعلى قاعدة المبدإ الكونيّ الشامل. حيئنذ لا تملك المجتمعات والسلطات ومراكز النفوذ ومنتديات القرار أن تفرض على البشريّة أحكامًا لا يقبل بها الناسُ القادرون، الأحرار، المتساوون، السليمون في بنيانهم العقليّ ووعيهم المتبصّر.

بيد أنّ المشكلة الأعوص هي أنّ أحوال التاريخ البشريّ أفضت بالناس إلى الاختلاف في اكتساب مراتب العقل نفسها، والفوز بدرجات الوعي عينها، والتنعّم بخيرات الأرض ذاتها. فإذا بالمجتمعات مستوياتٌ، منها المتقدّم ومنها المتأخّر، ومنها القادر ومنها العاجز؛ وإذا بالناس مراتبُ، منهم الفقير ومنهم الغنيّ، ومنهم الحكيم ومنهم الجاهل، ومنهم الصالح ومنهم الشرير. فكيف لنا، والحال هذه، أن نعقد الشروط المثلى في بناء حالة تشاوريّة راقية تساعدنا على تجاوز الأزمات الكيانيّة التي تهدّد مصير البشريّة جمعاء؟ 

أعود إلى مسألة تعطّل العقل وأعاين فيها أصل المصائب والويلات. إذا كان العقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، على حدّ قول الفيلسوف الفرنسيّ رُنِه دِكارت (1596-1650)، إذ إنّ جميع الناس يحصلون عليه حصولهم على الحياة، فإنّ البشر لا يرعونه الرعاية عينها، ولا يستخدمونه الاستخدام ذاته، ولا يطوّرونه التطوير نفسه. وهنا أصل المشكلة.

أرى الحلَّ آتيًا من التربية الصبور على رعاية العقل حتّى لا يتعطّل. ذلك بأنّ الأشخاص هم بنًى رمزيّة وهياكلُ معنويّة، على ما يذهب إليه هابرماس نفسُه، يختزنون في باطنهم اختمارات الحياة التي اقتبلوها واختبروها على تراخي الأيّام. لا بدّ إذًا من ترميم ثقة الناس بالعقل السليم حتّى ننجو من هذه الأزمة ومن الأزمات الكونيّة الأخرى المقبلة علينا. فالقيمة الإنسانيّة تتبلور وتتجوهر في عمق التأزّم، لا في منبسطات الرخاء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *