ثورة 17 تشرين الأول: تمخَّض الجبَل فوَلدَ فأرا…

Views: 10

الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني

“ثورة” 17 تشرين الأول 2019 لم تمُت بعد، وهي لا تزال تدغدغ نفوس من آمنوا بها، بخاصة من خيّبت آمالهم وحرقتهم نكبتها. والبروفسور الأمير وليد الأيوبي من الذين لا يزالون حاملين قضيتها بكل جوارحه فأرسل لي، بعد أن تشرفتُ بتقديم كتابي “ألجمهورية الخامسة: ألحلّ للمعضلة اللبنانية”، مقالا تحليليا كتبه عنها وكأنه يدعوني لمقارنة دعوته لها بدعوتي لتطبيق رؤية الجمهورية الخامسة التي أبشر بها كالحل الذي لا يمكن رفضه للمعضلة اللبنانية. وعملا بأرفع القيم التي تدعو لاحترام الرأي الآخر والتحاور معه للتوصل بواسطة “الفهم والتفهيم والتفاهم” إلى تفهُّم رؤية الآخر، وتأسيس الحوار عليه، أكتب له رأيي، ونضع حوارنا المشترك بتصرّف مجتمعنا المعذّب، الباحث عن “نواة” مشتركة للمواطنة يبني عليها الوطن المستدام.

بعد تحليل علمي وموضوعي لأسباب انفجار الثورة، والخلل الذي أصابها، والعوامل التي تسببت بتحوّلها عن أهدافها وضياعها، ينهي البروفسور الأيوبي نصّه بصب جامّ غضبه على الطائفية السياسية ويدعو لـ “رصّ الصفوف وتوحيد الكلمة تحقيقا للأهداف الكفيلة باجتثاث الطائفية السياسية وبناء الدولة المدنية المنشودة!”

عادت بي الذاكرة إلى ما قرأته يوما عن قائدَي الثورة الفرنسية دانتون وربسبيار… بيد أني كنت شاخصا إلى أمير من سلالة عريقة تعود للقائد المكرّم في التاريخ، شرقا وغربا، للقيم القيادية التي أثبتَتها انتصاراته وفي الوقت نفسه لاحترامه الفائق للمقدسات إذ لم يؤثر به أي غرور وطمع بمال أو بذهب، ولا سمح للطامعين المتطرفين الحاقدين بالتأثير عليه، مرغِما إياهم على احترام مسلمات دينهم الحنيف، الإسلام. بهذا يكون الأيوبي الجد قد عرف كيف يميز بين ما هو لله وما هو لـ”قيصر” ليعطي كلا منهما حقه. (godaddy.com)  

 

عليه كتبتُ لأخي في المواطنة المنشودة قائلا: “لم يعرف التاريخ امراءَ ثوريين إنما وَرَثَةَ اقطاعٍ مكنون في طيات القيمة الأميرية، والحمض النووي يشهد على أن الطبع يغلب التطَبُّع. بهذا لا يبقى أمام أي أمير (وهنا الشعب اللبناني المقهور) الذي يريد أن يزيل “أميرا” منافسا له (أي المنظومة الحاكمة) إلا أمر من اثنين: إما مؤامرة انقلابية لا تخلو من العنف والدم دون ضمان نتيجتها، وإما الدبلوماسية والصبر والعمل السياسي الدؤوب مع التثقيف والتوجيه من قياديين حكماء على المواطنة السليمة. فـ”الـجمهورية الخامسة” تلفت إلى أن الوطن كائن في “نواة” مواطنيه وليس في النظريات ولا في الجغرافيا. اما تعبير “اجتثاث الطائفية السياسية” فهذا، أخي الغالي، طرحٌ له حقوقٌ فكرية للدبلوماسية التحريرية الامريكية وقد طُبق في العراق، والنتيجة، لغاية اليوم، لا تشجع احدا على تبنيها، وفهمكم كفاية. وهنا أذكرك بما قلته لي بالفرنسية عند لقائنا وما معناه: “لا يمكن أن نَحِلَّ مصيبة بها المقياس بمعادلة رياضية أو علمية”. ”   إذا في هذا إقرار أن إصلاح ما في النفوس لتأسيس نواة المواطن الصالح، قبل الإقدام على أي ثورة، يحتاج وقتا وصبرا ووضع أسُس صالحة للبناء. 

اشكر ثقتكم بروفسور أيوبي بإرسالكم مقالكم لي. وسبق، بالثقة نفسها، أن سلمتكم كتاب “ألجمهورية الخامسة – ألحل للمعضلة اللبنانية” كمشروع انقاذ على مستوى سادة كرام، كبار، يريدون بالحكمة والحنكة ودراية الأب الصالح ان ينقذوا وطنا يخسر نفسه لأسباب ثلاثة، اثنين يخصان الوطن كأرض مقدسة والثالث يخص الإنسان اللبناني كمواطن يبحث عن وطن. الأول هو الانتقال بقيمة لبنان، من قِبَل حكامه الأثرياء الجدد وأمراء الحرب، من أرض مقدسة لها رمزيتها في الكتاب المقدس إلى مرتع للكارتيلات الانتهازية على أنواعها، والثاني إخضاع الأديان للسياسة والمال وتحجيمها في الطائفية السياسية فارضين عليها وعلى المؤمنين كافة مخافة المال والسلاح بدل مخافة الله واحترام القانون.  أما الثالث فهو تحويل قيمة الإنسان إلى قيمة السلعة المستهلَكة لمصالحهم، وهذا نمط عالمي يدعو أولا بأول لتعطيل أي قُدوة تعاكس قدوة الإعلام الذي يسيِّرونه، ثم تضرب التكوين العائلي في جوهره بإفقاده اهمية قُدوة الوالدَين لأولادهم. 

 

هذه الآفة الأخيرة، العالمية والمحلية في آن، تُدمي لبنان والمجتمع الشرقي اكثر من غيره من المجتمعات لتجذر مخافة الله فيه واحترام قدوة “رجل الدين” و “الوالدين” و”المعلم” الذين عليهم جميعا تعليم الإنسان احترام قدوة رجل الأمن ورجل القضاء. هكذا مُعضلة عطلت فكر المواطن والانتماء الوطني، وغذّت مكانهما روح التفرّد بالقرار والنرجسية سواء بالتجميل الاصطناعي أم بالتحرّر الجنسي، لا تواجه بثورات عوراء بتراء لا يمكن أن يكون لها رأي ورؤية موحَدَين، أو يكون هدفها كالذي طرحه مقالكم: “اجتثاث الطائفية السياسية”. وما الذي يكفل ألا تَجتث الثورة ما بقي من قيم حميدة ” فتتمخض مجددا لتلد هذه المرّة وحشا يأكل أبناءها وبناتها؟ هكذا معضلة تواجه بمشروع كالذي وضعته بين أيديكم. وما خاب املي بعد من عدم تجاوب الكثيرين مع ندائي لأني توقعت سلفا ألا ألاقي لبنانيا واحدا، ذكرا كان أم أنثى، غير أسير لرأيه ولمواقفَ مسبقة في حياته وثقافته. وأقل منه كان توقعي بلقاء مجموعة دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية قادرة على تبني رؤيتي لكثرة القيود التي تلفها بخاصة مخافتها خسارة السلطة والمال وليس بعد خسارة الوطن والقيم والأخلاق. يؤسفني أن أنهي كلمتي بالقول بأنه ما من مجتمع متشرذم مثل مجتمع لبنان اليوم. فهلا طرحتم علي، يا أخي بالمواطنة، حلا بمثل ما في كتابي، أمشي به وراءكم؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *