في مديح الحجر المنزلي
سلمان زين الدين
(1)
منذُ أن يفتحَ عينَيْهِ على الدُّنيا بمجيئِهِ إليها، إلى أن يُغمضَهُما برحيلِهِ عنْها، يعيشُ الإنسانُ في عددٍ كبيرٍ من النِّعمِ لا يُحصى، لعلَّ أُولاها نعمةَ الولادة، وليسَ آخرَها “نعمةُ” الموت. وهو لكثرةِ هذهِ النِّعمِ لا يستطيعُ إحصاءَها. “وإنْ تَعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحصوها”، تقولُ الآيةُ القرآنيةُ الكريمةُ. وهو لفرطِ ما يعيشُ فيها يُدمِنُها ولا يَعودُ قادرًا على رؤيتِها والتَّحدُّثِ بها، “وأمّا بنعمةِ ربِّكَ فَحَدِّثْ”، تقولُ الآيةُ الكريمةُ الأخرى.
(2)
ذاتَ يومٍ، ركنْتُ سيّارتي في مكانِ العمل، وامتطيْتُ سيّارةَ أجرةٍ، في طريقي من منطقةِ الصنائعِ البيروتيّةِ إلى ما يُعرَفُ اليومَ بِمنطقةِ الوسطِ التجاري. تذمّرَ السّائقُ الشّابُّ وتأفّفَ من زحمةِ السَّيرِ الخانقة، وكانَ إلى يمينِهِ رجلٌ عجوزٌ، فَبادرَهُ بالسُّؤالِ والقولِ: “يا بُنَي، لو كانَتْ هذهِ الشَّوارعُ خاليةً منَ السّيّاراتِ، هلْ كنْتَ لِتَجْرُؤَ على عبورِها؟ يا بُنَي، الزّحمةُ نعمة، والضَّوءُ نعمة، والهواءُ نعمة، والماءُ نعمة، فَاحمدْ ربَّكَ على ما نَحْنُ فيه من نِعَم”.
(3)
تذكَّرْتُ هذهِ الواقعة، والعالمُ بأسرِهِ يعيشُ في حَجْرٍ منزليٍّ، طوعيٍّ أو قسريٍّ، بفعلِ جائحةِ
” كورونا” الّتي تجتاحُهُ من أقصاه إلى أقصاه. ووجدْتُ أنّ المحنةَ الّتي يعيشًها العالم، في هذهِ اللحظةِ التاريخيّةِ الحرجة، يُمْكِنُ تحويلُها إلى منحةٍ، وأنّ النّقمةَ قد تُصبِحُ نعمة، وأنّ المسألةّ تتوقّفُ على الزاويةِ الّتي ننظرُ منْها إليها، فالأمورُ نسبيّةٌ وليسَتْ مُطلقة، وما هوَ نعمةٌ لِزيد قد يكونُ نقمةً لِعمرو، والعكسُ صحيح، و”مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ”، على حدِّ تعبيرِ جدِّنا أبي الطيِّبِ المتنبّي. وإذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فلماذا لا ننظرُ إلى الحَجْرِ المنزليِّ منَ الزاويةِ الّتي تجعلُنا نتلمّسُ ما يَتمخّضُ عنْهُ منْ نِعَمٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة؟
(4)
في النِّعمِ المباشَرة، أتاحَ لنا الحَجْرُ المنزليُّ أن نكتشفَ، من جديدٍ، نعمةَ الأسرة، تلكَ الّتي حالَ إيقاعُ الحياةِ السريع، وظروفُ العملِ المتسارعة، دونَ التَّمتُّعِ بها، فأصبحْنا نرى أولادَنا أكثر، نَنْعَمُ برياشِ أجنحتِهِم الدّافئة، نُشاركُهُمْ اهتماماتِهِمِ الصغيرة، وقد نضيقُ ذرعًا بشيطناتِهِمِ البريئة، وما أطيبَها من شيطنات!
(5)
وأتاحَ لنا أن نتمتّعَ بنعمةِ القراءة، فَنَغوصُ في أعماقِ الكتبِ نستخرجُ ما فيها من دُررِ المعاني. ونُحلِّقُ معَها على أجنحةِ الخيالِ، فنقطفُ ما تطالُهُ اليدُ من نجومِ المباني. ونَهيمُ في براريها، فنصطادُ ما أمكنَ من طواويسِ اللغةِ وظِباءِ الكلام. (www.mnspas.com) بكلمةٍ أخرى، أتاحَ لنا الحَجْرُ أن ندفنَ رؤوسَنا في رمالِ الكتبِ المتحرِّكة، وما هَمَّنا إن أغرقَتْنا الرِّمالُ أو لم تُغرقْنا، فنحنُ، على الأقلِّ، لا نرى الصّيّادينَ الّذين يَتربَّصونَ بنا، وما أكثرَهَم! ولعلّ “كورونا” ليسَ أشدَّهُمْ خَطَرًا.
(6)
وأتاحَ لنا أن نُمارِسَ نعمةَ الكتابة، فنعكفُ على الذّاتِ، نَستولدُها جميلاتِ القصائد. أو ننخرطُ في ورشةِ النَّقدِ، فَنتَّخِذُ من أعمالِ الآخرينَ موادَّ أوَّليَّةً لتصنيعِ مُحْكَمِ المقالات. أو نُطلِقُ لأقلامِنا العَنان، فتبوحُ لِبيضِ القَراطيسِ بما يَعتريها من سوادِ الشُّجون.
(7)
وأتاحَ لنا أن يَسوطَنا التلفزيون بنارِ أخبارِهِ، وأن يَلْسَعَنا بجليدِ برامجِه. ولولا بضعةُ أفلامٍ أيقظَتْ فينا الحنينَ إلى زمنٍ جميلٍ تولّى، وَمَنَحَتْنا فرصةَ استعادتِها ثانيةً، وَلَوْ بالخيالِ، لَكَفَرْنا بهذهِ النِّعمة.
(8)
في النِّعمِ غيرِ المباشَرة، أتاحَ لنا الحَجْرُ المنزليُّ أن نُدرِكَ أهمِّيَّةَ نعمةِ العمل، وأن نَحِنَّ إلى ذلكَ التَّعَّبِ اللَّذيذِ الّذي قد نَضيقُ به ذَرْعًا حينَ نكونُ في غمارِه، ونتطلّعُ إلى فرصةٍ نتخفَّفُ فيها من أعبائِه، حتّى إذا ما حانَت الفرصة، نروحُ ننتظرُ العودةَ إليه بفارغِ الصَّبر. ذلكَ أنّ ثمّةَ نوعًا من الراحةِ لا نُدرِكُهُ بالعطلةِ ومُشتقّاتها، أسمِّيهِ بِراحةِ التّعب. ولعلّهُ أجملُ أنواعِ الرّاحة. إنّ الانخراطَ في العملِ وإتقانَهُ من شأنِهِما أن يتمخّضا عن الرّاحةِ الكُبرى، تلكَ الّتي لا تُنالُ إلاّ على جسرٍ من التَّعب، على حدِّ تعبيرِ جدِّنا الآخرِ أبي تمّام. ولعلّ هذا يُفَسّر ما يَتَرَدّى فيه العاطلونَ عن العملِ من فراغٍ داخليٍّ يُحاولونَ مَلْأَهُ بما ملكَتْ أيْمانُهُم وبما لم تَمْلُك. ولعلّ هذا يُفسِّر أيضًا ما يَؤولُ إليهِ بعضُ المُحالينَ إلى التَّقاعدِ حينَ لا يَجِدونَ ما يَمْلَأونَ به أوقاتِ فراغِهِمْ، وما أطولَها! اللّهمَّ أَدِمْ علينا نعمةَ العمل، فأنتَ أمَرْتَنا به، وَسَتَرى عملَنا وَرسولُكَ والمؤمنون.
(9)
وأتاحَ لنا الحَجْرُ المنزليُّ أن نُدرِكَ قيمةَ نعمةِ الحرّيّة، تلكَ الّتي لا تَعدِلُها نعمةٌ على الإطلاق، في نوعِها الخارجيِّ المُتَعَلّقِ بالحركةِ والتنقُّل، في الزّمانِ والمكانِ المناسبَيْنِ، دونَ خِشيةٍ من حسيبٍ أو رقيبٍ، ودونَ تَوَجّسٍ من القرْبِ والبُعْد. ذلكَ أنّ الحرّيّةَ لا تقتصرُ على الدّاخلِ الإنساني، بما هيَ حرّيّةُ المُعْتَقَدِ والشُّعورِ والخيال، مِمّا لا يُمْكِنُ لأيَّةِ قُوَّةٍ في التاريخِ الحَدَّ منْها، مهما أُوْتِيَتْ من وسائلِ القمعِ وأدواتِه، بل تتعدّى ذلكَ إلى الخارج، بما هيَ حرّيّةُ الحركةِ في المكان. وعلى أهمّيّةِ النَّوعِ الأوّل، فإنّ الثّاني لا يَقِلُّ عنْهُ أهمّيّةً، وكِلاهُما يُكْمِلُ الآخر.
(10)
وأخيرًا وليسَ آخِرًا، أتاحَ لنا الحَجْرُ المنزليُّ أن نُدرِكَ نعمةَ الصَّداقةِ والاختلاطِ بالآخرينَ والتفاعلِ معَهُمْ وجهًا لوجه. وعلى قلّةِ الأصدقاءِ الحقيقيّينَ وكثرةِ المُزيّفينَ منْهُم، في زمنِنا، فإنّنا نشتاقُ إلى مشاهدةِ القلّةِ ومصانعةِ الكثرةِ، وما يترتّبُ على ذلكَ من سلامٍ وابتسامٍ وكلامٍ ومصافحةٍ وقُبَلٍ وعِناق…ذلكَ أنّ لا شيءَ يُغْني عن النَّظَرِ في وجوهِ الّذينَ نُحِبُّهُمْ ابتغاءَ الرّاحةِ أو السَّكينةِ أو الاستزادةِ من الحُسْنِ. أَلَمْ يَقُلْ جَدُّنا الاخَرُ الخَبيرُ في فنونِ الحياةِ أبو نؤاس:
يزيدك وجهه حسنًا إذا ما زدته نظرا
ولن تستطيعَ وسائلُ التَّواصُلِ الاجتماعي، على تقدُّمِها وانتشارِها كالنّارِ في الهَشيم، أن تُغْنيَ عن رؤيةِ الوجوهِ، الصَّديقةِ والحبيبةِ، فـَ “رؤيةُ الوجوهِ سَلام”، على حَدِّ تعبيرِ المَثَلِ الشَّعبي اللبناني.
(11)
وبعدُ، إذا كانَ من شأنِ الحَجْرِ المنزليِّ أن يَتَمَخّضَ عن هذهِ النِّعَمِ، المباشَرَةِ وغيرِ المباشَرَةِ، وغيرِها مِمّا لا مجالَ لِذكرِهِ، ألا يَتَحَوّلُ هوَ نفسُهُ، رغمَ ما يَتَرَتّبُ عليهِ من خسائرَ أيضًا، إلى نعمة؟ سؤالٌ يستحقُّ التَّوَقّفَ عندَهُ وطرحَهُ على بشساطِ البحث. بِرَأْيي، نحنُ مُحاطونَ بِالنِّعَم، من كلّ حَدْبٍ وَصَوْب. هيَ موجودةٌ خلفَ الظَّواهرِ العابرة، والمهمُّ أن نَمْتَلِكَ القُدرةَ على الرُّؤيةِ والرُّؤيا، “وإنْ تَعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحْصوها”.