يوم جادلتُ المتنبي

Views: 1169

د. جميل الدويهي

 

من كتاب فكريّ خامس سيصدر أواخر عام 2021

 

ركبتُ في آلة الزمان التي اخترعتها بعد جهد جهيد… وانطلقت بها، والناس يلوّحون بأيديهم، والحزن على وجوههم، قائلين: يا لخيبتك يا جميل! هربتَ منا، لكي تفتش عن عالم لا يشبهنا… وقد لا تعود إلينا أبداً…

قلت لهم: أنا ذاهب في رحلة، لأنّ عندي كلاماً مع المتنبيّ، ونقاشاً بدأَه، ولم يكن لي رأي فيه… وسأعود إليكم قريباً…

سألتُ عن المتنبي في بغداد، فقيل لي إنّه في حلب عند سيف الدولة، فقصدته إلى هناك، ووجدته قاعداً في خيمة مع بضعة رجال، كانوا  يتحدّثون ولا يتحدث. يقولون ولا يقول. فدخلت وسلمت، فسألني الحاضرون عن اسمي ومدينتي، وتعجّبوا من هندامي، فلباسي يختلف عن لباسهم، وقيافتي ليس فيها شيء من قيافة ذلك العصر والأوان، ورائحة عطري الفرنسي تزكم الأنوف… وبعد أن شرحت لهم أنني من زمان آخر، طلبت الكلام، فصمتوا جميعاً، وكان عندهم فضول ليكتشفوا منطقي. فتوجهت بالحديث إلى المتنبي قائلاً:

ألستَ يا شاعر العرب الأكبر مَن قال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله               وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؟

قال: نعم. قلتها.

قلت له: آه كم أشفق عليكم يا شعراء الحكمة، وأتعجّب من حِكم وأقوال تنطقون بها من غير تفكير عميق، وتعتقدون أنها تصلح لكل الأيّام والأماكن!… لقد درسنا في الكتب عنكم، وجاهد المعلمون في إقناعنا بأنّ الحكمة كنوز ثمينة، ولا يحلو الشعر بدونها.

غضب المتنبي من كلامي، وتقلقل سيفه تحت يده، فتذكرت قوله عن الخيل والليل والبيداء، وعن السيف والرمح. لكنّني قلت له: لست خائفاً منك، لأنّني لا أخاف من أحد تحت الشمس… وإن حكمتك لا تصحّ! فمَن قال لك إن صاحب العقل يشقى، وصاحب الجهل ينعم؟ لا يا ابن الحسين… إن الجاهل هو أكثر الناس شقاء، وغيظاً، وحقداً على كل شمس طالعة، ويتمنى لو يهشم الخير بأظافره، وهو لا ينام الليالي لشدة غضبه ممّن هم أعلى منه معرفة وأكثر ذكاء. وإني ما رأيت جاهلاً إلا وتمنى أن يقتل الفلاسفة جميعاًُ، وما رأيت سليط لسان إلا واشتهى أن يختق البلابل المغردة، ويجعل لنقيق الضفادع تماثيل وأبراجاً مشيّدة. وما رأيت قليل العقل إلاّ واشتهى أن يكون حاكماً على أصحاب العقول، وعلى الأمم أيضاً…

قال المتنبي: أنا ما قصدت الناس جميعاً…

أجبته: وأنا لا أقصدهم جميعاً… فإنّ هناك فرقاً بين إنسان لم تسمح له المقاديربأن يصير عالماً، ويعترف بذلك لنقاء قلبه، وتواضع روحه، ومحبّة الله التي انسكبت فيه، وبين جاهل متغطرس يدّعي أنّه أفهم الناس، كما تزعم الشياطين وعفاريت الليالي أنّها ملائكة… فهذا يا سيّدي أكثر الناس خيبة وشعوراً بالألم والمرارة. وقد يبكي عندما يشاهد أعمال العظماء وهو غير قادر على بلوغها… وقد يعمد إلى تهديم الحضارة انتقاماً لعجزه وقصور يده وفكره… أمّا العالم والفيلسوف وصاحب الأفكار النيرة، فهو الذي يفرح لأنّه يعطي الخير للعالم، ولولا يداه لتحطمت أسوار المدنيّة، وانتهت الشعوب في مجاهل الظلام والتردي… أما رأيت كيف يطاردونك أنت في المجالس، وأنت الشاعر الشاعر، ويريدون الاقتصاص منك لأنك أكثر إبداعاً منهم، حتى وصل الأمر بشاعر وضيع هو ابن لكنك، أن يقول عنك كلاماً هو من الرداءة والانحطاط بمكان؟

قام المتنبي من مكانه، وبشائر القنوط بادية عليه، فهمس لغلامه قائلاً: ما جادلت أحداً إلاّ وغلبته، ما عدا هذا الرجل الآتي إلينا من عصور تختلف عنا. فهيا بنا يا غلامي لنرحل من هنا… فإنّي والله لا أطيق طعم الانكسار.

خرج المتنبي على عجل من الخيمة التي كنا فيها، ومضى ليلقي قصيدة على مسامع سيف الدولة، وكانت الموسيقى تصدح في القصر المنيف الذي يتربّع على قنّة عالية… ورأيت عربات مطهّمة تتوجّه إلى القصر، عليها أمراء وأميرات حسان، فيفتح لها حرّاس بني حمدان الرتاج الضخم… قال لي أحد الحاضرين وقد أعجب من جرأتي وصواب رؤيتي: لماذا لا تمكث عندنا وقتاً، فنعرّفك بسيف الدولة، وقد يجزيك بالمال والإمارة؟… فضحكت، وقلت له: إنّ عندي إمارة أودّ الرجوع إليها، وهي عندي أغلى من أوطان الناس جميعاً.

ركبت في عربتي، ورجعتُ إلى قومي الذين كانوا يعتقدون أنّني لن أعود إليهم البتّة، ولعلّهم ظنوا أنّني انكسرت وهُزمتُ في أيّامهم، فغادرت إلى جزيرة بعيدة خوفاً من كلام الجاهلين المتكابرين. ولما رأوني عائداً تهللوا، وقالوا: يا لك من مشاكسٍ عنيد! فمن يكسر قامة جبل من الجبال العُتاة… تأبى الرضوخ والخذلان؟

_______

(*) جميل الدويهي: مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب المهجريّ الراقي – سيدني

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *