سجلوا عندكم

“جان توما” المسيحي وذاكرة رمضان الإسلامي

Views: 1027

نيفريت الدلاتي غريغوار

  اذا كان الفنان العالمي المستشرق ، Eugène Delacroix  مبدعا بالوانه في رسم حياة الشرق، ملهما للعديد من الرسامين الفرنسيين، فان “جان توما”  المشرقي المسيحي، ابدع بأدبه لوحات تسرقنا  الى ابعاد شهر رمضان الكريم.

“د.توما” قرأت لك مقالين رائعين:” لقا الأحد الثقافي 2020- 4-26″، و” شهادة متجّددة ورسالة حياة في مدينة الموج والأفق  2020-05-05″، حول شهر رمضان الكريم، والتعايش الأخوي الأصيل بين المسلمين والمسيحيين في مدينتك العزيزة على قلبك “الميناء”، التي تنقشها كعادتك حجرا حجرا، خيفة غرق ماضيها الثقافي، الاجتماعي، والتاريخي.

 وما لفت نظري، هو قول فضيلة الشيخ الدكتور”ماجد الدرويش” ؛ “رمضان بعيون مسيحية”.

فأنا منذ زمن لم اسمع هذا التمييز بين مسلم ومسيحي، اولا لأنني في باريس حيث الدولة علمانية. ثم انني نشأت في بيت هويته لبنانية. لكن جاءت هذه الالتفاتة الجميلة للشيخ “ماجد” في محلها، ودفعتني لأن أكتب اليك.

د. جان توما

 

“د. توما” انا اقرأك منذ سنتين، ولم اتساءل يوما واحدا عن طائفتك، وكأن “جان” المسيحي ضاع في “مصطفى” المسلم، من خلال ادبك المتميز بالحيادية.

 أنت عندما تدخل الحارات العتيقة، تبقى “جان” اللبناني، ابن الميناء.  تدق باب “ابي جورج” لتسأله عن أخبار “ابي محمد”، والعكس.

في كتابك “وجوه بحرية”  لم تقرأ الأديان على وجوه بحارتها، بل اخرجتها من اعماق الماضي وجها واحدا. اليوم في ابداعك الرمضاني، لم تفصل بين كنيسة “ابي جورج”، وسجادة صلاة”ابي مصطفى”، بل اتت امواج بحر الميناء لتحكي قصة بيت واحد، يغفو على شواطئها.

 نرى انك في لوحاتك الأدبية هذه، كنت منصهرا كليا، وبشكل عفوي، في الجو الرمضاني الاسلامي، وكأنك واحد من ابنائه. لا تمييز بين قنديل وقنديل لاضاءة الميناء.

ان من يقرأ هذين النصين، يخال نفسه في معرض لوحات فنية رائعة للرسامين الاستشراقيين، الذين ابدعوا في نقل وقائع، البلدان العربية وقصصها التي زاروها. وانت ابدعت في تخليد هذه العادات والقيم الاجتماعية التي يتميز بها المجتمع اللبناني، “وبعيون مسيحية” كما قال فضيلة الشيخ “ماجد الدرويش”.

 فأنت فعلا اديب، رسام، وصياد مواقف لزمن يكاد يرحل في غيبوبة النسيان. وكما قلت فيك في “وجوه بحرية” : انت تصطاد دائما الزمن الضائع. وتسرق الأيام الحلوة لتخبئها في قوارير التاريخ العطرة.

ان صورك الرائعة هذه، تعكس فعلا نمط، لبنان الحقيقي ووجهه، الذي عرفناه في الماضي، القائم على العيش الجامع والعادات الأصيلة، خاصة لأبناء الميناء وطرابلس.

لقد اعدتني سنوات الى الوراء، تركتني اعيش ايام طفولتي، واشم روائح الماضي المنبعثة من خلف نوافذ مطابخ رمضان الشهية، المسحراتي، وكل هذه الأجواء الجميلة التي كنا نعيشها كلنا كلبنانيين. وكأنك انت المسحراتي الذي يوقظ  ذاكرة الماضي الجميل.

ان من يقرأك يشعر بالاطمئنان والراحة النفسية، بعد ان تكسرت اليوم، كل مفاهيم الهوية اللبنانية والانتماء الوطني في هذا الزمن الرديء.

انك من خلال هذين النصين، تضعنا امام التساؤل: أين نحن اليوم من الأمس؟ اين هي هذه اللوحات الرائعة من هذا الدمار الوطني والنفسي الموجع الذي اوقعونا فيه؟

اين لبنان اليوم من “الشيخ صبحي الصالح الذي كان يلجأ الى الخوري جورج خضر يسأله رايه في مخطوطه عن (النظم الاسلامية)، والخوري يستفيد مما كتبه الشيخ صبحي الصالح في علوم القرآن والحديث”؟.

 اين هو “بابور الكاز الذي كان وهجه يطهو طبقا لمحمد  وجورج؟

اين هو “مكاريوس موسى”، يؤمن للتلاميذ اداء صلاة الجمعة في مسجد الميناء الكبير، يصطحبهم بنفسه، او يرسل معهم احد المدرسين”؟

ما اروع هذا التلاحم والاحترام للآخر.

 ماذا فعلوا بنا اليوم؟ وقد حولوا الايمان الى سلاح طائفي يقتلوننا به ويقتلون الوطن.  وحوّلوا غنى التعايش والاختلاف عن الآخر، الى حقد ومصالح ذاتية تفتك بنا.

ليتهم يعيدونا الى “الطفلة ميشلين التي تتذوق طعم الطبخ من الطنجرة  بملعقة لتشير الى (ام احمد) بزيادة الملح ام عدمه”.

ما اجمل هذه الصور الرائعة التي جعلت من المسيحي محبا ومتعاطفا مع المسلم، ومشاركا في عادات صيامه.

 هذا التداخل بين المواطنين هو كتداخل الألوان الفنية بين بعضها البعض. وهي تمثل  لوحة رائعة عن هذه العادات الأصيلة، بحيث تصبح “ميشلين وام محمد” شخصا واحدا تنتفي بينهما الطائفية،  ليصبح الايمان الحق عاملا مساعدا بين احبة.

وننتقل الى اجمل القيم المعبرة عن الاحترام المتبادل، والعفوي بين المواطنين، وليس خوفا من الآخر، كما هو اليوم عند البعض، للأسف. “كانت ربات البيوت المسيحيات يمتنعن، في شهر رمضان الكريم، عن الطبخ “الثقيل” كرمى صوم الجيران”

انت دكتور “توما” اعطيت صورا تعكس فعلا واقع المجتمع اللبناني الأصيل. هذا الواقع الذي شوهه البعض، اليوم، وحوّله الى اختلاف حاقد يفرّق بين هذا التمازج العفوي الرائع.

انت رسمت لبنان الذي نبحث عنه ، رممت الزمن الجميل الضائع الذي نحلم برجوعه.

ونقول لمن دمّر هذا التعايش الرائع:

كفوا عن وضع المعابر النفسية بين ” جورج ومحمد” ؟ كفوا عن  تشويه الأديان لمصالحكم.

اعيدونا الى عناق القرآن مع الانجيل. والى انصهار القيم الواحدة في سماحة الاسلام والمحبة المسيحية.

 اعيدونا الى الهوية اللبنانية في وطن الأرز.

 دعونا نخجل من قراءة المذاهب على وجوه الانسان في وطننا.

دعونا ندخل الأحد الى الكنائس ونصلي الجمعة في المساجد.

دعونا ننتمي وننمو في طائفة الوطن، ونعيش ادياننا، حبا، تعايشا، وغنى بتعدد الطوائف.

  هذا هو لبنان الذي نحلم به “د. توما” وقد خلدته انت في ادبك الرائع، تعايشا تجلى بقبول الآخر ، المختلف، بالاندماج الوطني العفوي، بعيدا عن سيف السياسة.  ودكتاتورية الطائفية. شكرا لك.

(باريس- 05-05-2020)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *