العبور

Views: 173

د. جان توما

حين بدأت الأبجدية تتلوّى على ألسنة الناس كانت الطبيعة ما تزال على حالها ، عفوية، بسيطة، لم يخترق الإنسان دواخلها، بل كان يرتعب من ظواهرها المفاجئة.

ليته بقي على خوفه من مطرها وعواصفها ورعدها ونارها وطوفانها وثورة براكينها. منذ تسلّط على مقدرات الطبيعة، برًّا وبحرًا وجوّا، خرب أنماط الحياة، وبلبل رونقها.

راح إلى البر فقطع أشجاره، وأحرق غاباته، وخرّب الغطاء النباتي، وحفر جباله، ودمّر الجلول، وبنى المعامل، ولوّث المحيط، وسمّم النهر والينابيع.

لم يشبع الإنسان من البرّ، فراح إلى البحر يرمي فيه مجاريره وحمولات السفن المهترئة. قتل الثروة البحرية على الشاطىء، ويعمل الآن على تعكير صفو الهناءة في أعماقه بحثا عن البترول وتوابعه.

وصار له أن يصعد إلى الجو، فحوّل القصائد الكونية إلى ساحات خردة لأجهزة الفضاء، وبقايا المركبات الفضائية، وفضلات المختبرات، وأشلاء ما تحطّم.

لم يكفه البر والبحر والجو، فانصرف إلى التلاعب بالكون الصغير الذي هو الإنسان، فانصرف إلى فكّ شفرته الجينية ليخدم غروره ويبسط سيطرته على وريد الحياة.

ماذا لو يكتفي المرء بدرب قادومية وأشجار ممتدّة؟ حيث ينصب عرزاله بين أغصان الحياة ليشعر بنسائمها، وبنبض شرايينها. هي الدنيا مشلوحة بين درب وتراب، بين عطر وسور، بين ياسمين الدار وإكليل العفوية المضمّخ بأوراق الغار. (https://mva.la)

 

 

(*) الصورة للصديقة تيريز شاهين من بيادر السرج- الضنية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *