البندقية المسروقة

Views: 538

زياد كاج

عاد الى فراشه لاهثاً قبل الفجر بقليل. هدأت ضربات قلبه بعدما غطى وجهه بالحرام السميك من مخلفات العسكر العثماني، رغم ارتفاع الحرارة مع بداية فصل الصيف. أخذ يفكر بما سيفعل بغنيمته الثمينة في اليوم التالي؟ غفا الصبي  على صوت الآذان ونام على جوع معوي وشبع معنوي خطط له منذ أشهر.

   لقبه في الحي الفقير  كان “السبع” لسرعته وصلابة قلبه رغم صغر سنه. الحي كان عبارة عن بيوت متباعدة لعائلات فقيرة؛ البعض تمكن من بناء سقوف حجرية، والبعض كان مجبراً على العيش تحت صفائح التنك وسط أشجار الزنزلخت وغيرها على تلة تشرف على البحر القريب في رأس بيروت.

    كان زمن الانتداب الفرنسي؛  الفقر وضيق العيش والجوع وأجواء الحرب كانت تسود بيروت والبلد.

    الثكنة العسكرية للجيش الفرنسي والتي كانت تبعد مئات الأمتار عن الحي شهدت في صباح اليوم التالي حركة غير اعتيادية. الضابط المسؤول جمع باكراً كل عسكره في الباحة ولم يسمح لهم بتناول الفطور.

وقف في مكان مرتفع مخاطباً جنوده وعصاه تحت إبطه الإيسر، بذلته العسكرية المزينة بالأوسمة المتعددة الألوان والرمو ، وحذاؤه العسكري الأسود يلمع تحت أشعة شمس الصباح.  لهجته هذه المرة كانت مختلفة، قاسية، عنيفة، وعصبية.

“إنها إهانة لي وللجيش الفرنسي ولفرنسا”، قالها بلكنة رسمية حادة.

“اليوم سنبدأ حملة تفتيش دقيقة في المنطقة المحيطة… ولن أرحم أحدًا…خاصة العسكري الذي له علاقة بالحادثة… لقد سُرقت بندقية للجيش وعلينا إستعادتها!”

   سيكون يوماً مختلفاً  على أهل الحي لن ينسوه أبداً. وحده “السبع” يعرف ما جرى بالتفصيل. فهو من سرق البندقية، ومن خطط لكل تفصيل، وحام وراقب الثكنة كل يوم، نهاراً وليلاً. ولم يخبر بخطته أحدًا؛ لا اصدقاءه ولا أحدًا من أفراد أسرته.

   وضع خطته ودرس كل خطوة وقرر التنفيذ في ليلة ظلماء. خرج من البيت والأهل نيام؛ فتح الباب الخشبي ببطء، على صوت شخير الأب المعمّر وأخوته الكبار. لحظات وصار في الطريق الترابية في الخارج. مشى نزولاً  باتجاه الثكنة، متخفياً بعتمة الأشجار الكثيرة. وصل بعد دقائق الى الموقع الذي حدده. انحنى خلف جزع شجرة ضخمة في الجهة المقابلة. حدق طويلاً بحارس الثكنة النائم متكئاً على بندقيته. بدا كعادته غارقاً كطفل بريء في نوم عميق. كرشه دالق خارج حزامه العسكري الأسود العريض، جزمته العسكرية وسخة ومغبرة، ومن فمه المفتوح خرج صوت شخير مختلف عن شخير أهله في البيت.  نام على معدة شبعانة !

   قرر “السبع” التحرك بسرعة مستعيناً بعصا خشبية جلبها معه على قياس بندقية الجندي. لم تصدر قدماه اي صوت على الأرض الترابية السميكة الحمراء. صار قربه؛ رائحة فمه كريهة. بسرعة وخفة—ولا خوف في القلب—وضع الصبي العصا الى جانب البندقية ثم سحبها بحذر شديد من القاعدة. بقي الحارس نائماً على العصا، تراجع ، وعاد من حيث أتى ومعه بندقية فرنساوية تساوي ثروة .

   الحارس المسكين وضعه الضابط في السجن. وانطلق في حملة التفتيش مع عسكره. كان الخبر قد انتشر بين الناس أن العسكر الفرنساوي يشن حملة في المحلة. الجواسيس المزروعين بين السكان عادوا وألسنتهم فارغة. قرر الضابط التركيز على الحي الفقير القريب من الثكنة. فقصده وطلب من السكان الخروج من بيوتهم كي يتمكن عسكره من التفتيش. فهو يعرف تقاليد أهل البلد ولا يريد أن يستفزهم. دخل العسكر وفتشوا البيوت ولم يجدوا شيئًا. ثم جال الضابط شخصياً  ودقق في كل شيء. بدأت الاحتجاجات وسط الناس المنتظرة في حر الشمس، خاصة من النساء المحجبات اللواتي كنّ يرتدين الثياب السوداء مع “فيشة” على الوجه كي لا تظهر وجوههن أمام الغرباء.

    غادر الضابط وعسكره الحي. “السبع” كان يقف وسط الجموع. لن يتمكن من إخراج البندقية من المخبأ قبل أن تهدأ الأوضاع . كان خائفاً من والده إذا عرف أنه وراء السرقة. سيكون مصيره عاطلاً مع فلقة تترك آثارها على جلده. لكن الجوع كافر. والده لا يعمل وكذلك إخوته. ولولا المساعدات الشحيحة من أهل الخير لماتوا جوعاً. هو يكره العسكر الفرنساوي. يتحدثون بلغة لا يفهمها؛ اشكالهم مختلفة؛ يسخرون منه ومن شلته عندما يمرون قرب الثكنة. والعسكر السنغالي أكثر قساوة من معلميه.

   الضابط  المحنّك لم يسكت على ضيمه. عاد فجأة مرة ثانية الى الحي. أتى ومعه جنديان فقط. أخذ يتأمل وجوه الناس. جال على مداخل البيوت وتوقف أمام مدخل منزل الصبي الشجاع . دفع الباب الخشبي بعصاه  ودخل. غاب عن أعين الحشد في الخارج لدقائق ليظهر على سطح البيت. علا الصراخ : “كشفت ع الحريم!” الصبي بين الحشد أخذ بالتراجع الى الخلف. مستحيل أن يجدها. بدأ يفكر بالهرب.

أخذ الضابط اللئيم يحدق بالمشهد من حوله: رأى رأس بيروت من على تلة ، رأى البحر والرملة البيضاء بعيدة الى يساره، حدق في الناس تحته ثم ثبّت نظره على الشباك الخشبي تحته. وضحك ضحكة عالية سمعها الجميع. وحده “السبع” لم يسمع الضحكة وسرحت أفكاره بعيداً.

   دفع الضابط الشباك الخشبي الى الأمام وسحب البندقية ورفعها عالياً كأنه عثر على كنز مدفون. في الباحة تحت تحدث مع والد الصبي بلكنة عربية مكسّرة. الوالد حلف يمين معظّم أنه لا يعرف شيئًا عن البندقية ولا كيف وضعت خلف الشباك. لم يصدقه الضابط وقرر اعتقاله وأولاده الشباب وأخذهم للتحقيق معهم في الثكنة. علت صرخات الاحتجاج وبدأت النسوة بالعويل والبكاء.

   تقدم الصبي بجرأة وقال للضابط: “أنا سرقتها…لا تأخذ أبي”. وسرد له طريقة أخذها من تحت يدي الحارس النائم.

 إندهش الضابط لجرأة وعبقرية الصبي وسأله: “لماذا سرقتها؟”

أجاب: “أنا جائع….كنت أنوي بيعها كي آكل أنا وعائلتي”.

   أُخذ “السبع” الى الثكنة. بعد تدخل وجهاء المنطقة، قرر الضابط تشغيله لقاء وجبة يومية في مطبخ الثكنة كمساعد للحارس الذي  نُقل الى المطبخ قصاصاً له على نومه خلال نوبة الحراسة.

   بعد نيل البلد الاستقلال وانسحاب الجيش الفرنسي بسنوات، فُتحت مدرسة مكان الثكنة. كان أسمها “مدرسة الكرمل سان جوزيف”. واليوم حل محلها سوبر ماركت “أ.ب.ث” الضخم،  في عين التينة في فردان.

   يستمر الاحتلال بأشكال مختلفة؛ وكذلك السرقة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *