سجلوا عندكم

غسان تويني خلطة سحرية في بلد متعدد الميول

Views: 909

رؤوف قبيسي

ساعة يرحل رجل بحجم غسان تويني، هل يبقى الوطن كما هو؟

أقطع بأنه يفقد شيئا من ذاته، والذين جايلوا الرجل وعملوا معه ورافقوه، والذين قرأوا ويقرأون اليوم كتاباته، يفقدون هم الآخرون شيئا من ذواتهم ايضاً. أما من بقي منهم من “قرابة اللحم الدم” وهم قلائل، فهؤلاء يرحلون معه وهم أحياء. قبل ثماني سنوات غاب المعلم القدير، آخذا معه ماضيه، ماضينا. ترك لنا بعض الكتب، وصفحات ما زالت تولد صباح كل يوم، تذكًرنا به، حياً لا يموت. أما الغد وما أقساه، فشهادات جديدة عن لادة أجيال جديدة، معها يتغير هذا البلد الصغير، كما عودنا أن يتغير، فلا يبقى من ذكرى رجاله الكبار، غير كتاب عتيق، تعلو غلافه طبقة كثيفة من غبار الأزمنة.

هل كان غسان تويني في حياتنا كبيراً إلى هذا الحد؟

قيل عنه وكتب فيه الكثير، أما أنا فلا أجد ما أصفه به خيراً من القول إنه كان رجل الحضور المتوهج. في كل حقل عمل فيه كان متألقاً: في الصحافة سيداً بلا منازع، في الفكر والأدب متفرداً، وفي السياسة والديبلوماسية معلماً وأشبه بفيلسوف. لم أعرف الرجل، ولم ألقه إلا مرة واحدة، لكنه كان قريباً منى ومن الشباب الناهض. كان يمثل لنا لبنان المرتجى، موطن الفكر المتوقد والعقل الخلاق، المنفتح على الصدام العظيم بين الأفكار، وعلى التجليات الهائلة في ميادين العلوم والثقافات. في كتاباته ذقنا طعم الحرية، وكانت “النهار” مدرسة هذه الحرية ومنبرها الأساس. كان آخر عمالقة الصحافة اللبنانية. عمل لها، ورفع “نهاره” إلى مستوى عال من الجودة، وجعلها الصحيفة الأرفع، بين صحف لبنان وصحف العالم العربي. رجل فكر وحوار كان غسان تويني. والحق أنني لا أجد له نظيراً في لبنان وفي دنيا العرب، ولو سمحت له “بطاقة الهوية” بأن يرئس البلد، لجعله إحدى أعرق جمهوريات الشرق.

 

حضوره في لبنان كان كالزهر النادر. خلطة عجيبة غريبة من مكونات فريدة: أوروبي الفكر والنهج، إنطاكي الهوى، “سورياني” الروح. مزيج من عروبة الغساسنة، وأيقونات القسطنطينية، وصحف أثينا القديمة، مع لفحات من نسيم “هارفرد”، ومناخ راس بيروت المتعدد الثقافات، وأجواء الجامعة الأميركية. كتاباته، لمن يعرف كيف يقرأها كانت تحفل بكل هذه المكونات، لذلك فتن به الناس وأحبوه، واعتبره بعض السياسيين”مشاكساً”، واعتبره آخرون حالماً، أو طائراً يغرد في غير سربه. أما هو فلم يبال برأي هذا أو ذاك، بل ظل ثابتاً. لم تصرفه السلطة عن أفكاره، ولم تخفه ألوان التهديد والأذى، وقد لحقه منها الكثير.

كنت مثل كثيرين من اللبنانيين والعرب، كبير الإعجاب بغسان تويني، وثقافته الواسعة ورؤياه، ونظرته إلى الأمور، وآرائه في العروبة، وكيف يجب أن يكون الحكم في لبنان، لكنني كنت أتساءل بحيرة حول دوافع إيمانه بالماورائيات، الذي لم أكن اراه يتفق مع الفلسفة الوضعية، خصوصاً أننا في بلد، كانت المذاهب فيه ولا تزال، إحدى علاته الكبرى. بقيت في خاطري هذه النظرة عن غسان تويني، إلى حين قرأت كتابه “فلندفن الحقد والثأر”، فوجدت أن إيمانه عاطفة مشبوبة، أكثر مما هو فكر فلسفي مجرد، على رغم قوله إن دراسته الفلسفة في “هارفرد”، والتي حددها أرسطو على أنها معرفة العلل والمبادىء الأولى، قادته إلى القناعة بأن هناك إلهاً، ولو أن تلك القناعة لم تصل به وفق قوله، إلى حد يحمله على تقبيل تماثيل “القديسين”. أعتقد أن صورة أمه جاثية تبكي بدموع حارة أمام “الشاغورة”، أيقونة “العذراء” في كنيسة صيدنايا، شكلت أساس إيمانه العميق وجعلته، شديد التعلق بالأيقونات.

لكنه بقي برغم ذلك كله، يخاطب العقول الحرة، ويقود عبر “النهار”، دعوة إلى بناء الدولة المتحررة من العصبيات الدينية وغير الدينية. كفاه أنه لم يكن مستغلاً، وكان صاحب إيمان صاف في بلد تعود حكامه وزعماؤه “الروحيون” خلط الدين بالسياسة لغايات أرضية، كان من نتائجها أن فسدت العقول والقلوب والضمائر، وتراجعت الهوية، واختل التجانس الإجتماعي، وصارت دور العبادة مدخلاً إلى مخازن السلاح!

كان غسان تويني صحافياً قديراُ، وكاتباً جريئاُ، وصاحب لغة هي أقرب إلى الأدب منها إلى الصحافة. وكان فوق ذلك كله من أصحاب المدارس، نسيج وحده كما تقول العرب في الأدب القديم. خلطة سحرية نادرة في بلد متعدد الميول، مكنته من أن يغلب باليقين، شكوك المشككين، وظنون العابثين وأصحاب المواقع والمنافع، والرد على كل تساؤل يتصل بشخصه، وبما اكتنف سيرة حياته الطويلة من عقائد وأفكار ومواقف. هذا كله يجعلنا نفتقد حضوره وأسلوبه في الحوار، ويجعلنا نتذكره على الدوام، واحداً من رجال الفكر وأعلام الصحافة، الذين صبروا على المحن، وواجهوا الخطوب بعزيمة لا تعرف الفتور، وحملوا لواء الحرية العقلية في الشرق العربي عامة، وفي لبنان بنوع خاص.

***

(*) النهار

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *