عندما تسيّرنا الأقدار
ماجد الدرويش
منذ أيام اشتعل ال Facebook بكلمات التعبير عن مكنونات وأحاسيس المدونين تجاه آبائهم بمناسبة ما يطلق عليه (عيد الأب) ، يومها شعرت بالواجب تجاه والدي أنني ينبغي أن اشارك بهذه المكارم، ولكن لكثرة الأفكار التي تزاحمت في مخيلتي آثرت التأني لاختيار ما أرى فيه فائدة تاريخية وإنسانية ، فكانت هذه الكلمات.
أصابع القدر:
في العام ١٩٣١ انتقل والدي أحمد نيازي الدرويش (المولود سنة ١٩١٠) إلى دمشق برفقة صديقه هاشم الحسيني، الطبيب الذي انتخب نائبا عن طرابلس لدورات عدة رحمه الله تعالى، للإنتساب إلى معهد الطب العربي التابع للجامعة السورية بهدف دراسة الطب.
كانت السنة الأولى (التأهيبية) مشتركة بين طلاب (معهد الطب) وطلاب (معهد الصيدلة)، وبعد اجتياز السنة الأولى كان من المفترض حسب المخطط أن يتسجل والدي في معهد الطب مع صديقه هاشم الحسيني، إلا أنه لا يدري ما الذي دفعه إلى التسجيل في معهد الصيدلة، الذي تخرج منه سنة ١٩٣٧ بتقدير ممتاز.
في شهر آذار من عام ١٩٣٩ استحصل على جواز سفر سوري صادر عن سلطة الانتداب على سوريا ولبنان، وسافر فيه إلى العراق للالتحاق بالملك غازي بن فيصل، حيث إن والده الملك فيصل كان صديقا لجدي، جمعهما النضال ضد المستعمر الإفرنسي، فعينه الملك غازي نقيبا في الجيش ضمن الجهاز الطبي، لكن مكوثه في العراق لم يدم أكثر من ثلاثة أشهر، وذلك بسبب حدث كبير هز أركان النظام العراقي قبيل الحرب العالمية الثانية، وهو: وفاة الملك غازي في ٤ نيسان١٩٣٩ إثر حادث سيارة، قيل يومها بحسب تقرير وزير الداخلية ناجي شوكت: إن الوفاة غير طبيعية، وبخاصة أن الإنكليز كانوا منزعجين من انفتاح الملك غازي على الألمان.
ثم دخلت البلاد بعد ذلك في دوامة أمنية شديدة اضطر والدي معها إلى مغادرة العراق في شهر حزيران عائدا إلى طرابلس حيث افتتح فيها أول صيدلية له في كوسبا بشراكة متمول من آل الصراف.
إلا أن نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول ١٩٣٩ غيرت كثيرا من الحسابات، فانتقل والدي في آخر ١٩٤٠ إلى الميناء – الأسكلة – حيث افتتح صيدلية فيها.
حتى كان شهر حزيران من سنة ١٩٤١، بحدثه المؤلم بحق أهل الميناء – الأسكلة، وهو قصف البوارج والطائرات الحربية الإنكليزية لها ضمن الصراع على لبنان وسوريا بين حكومة فيشي الفرنسية التي أعلنت تحالفها مع القوات الألمانية، وبين جيش فرنسا الحرة بقيادة ديغول الذي كان جزءًا من الحلفاء.
ولما كانت صيدلية والدي تقع على البحر مباشرة تحت الجامع العالي، (بوظة أش إش وهدلا حاليا)، فإنها استقبلت؛ بموادها الكيماوية المتنوعة التي كانت تركب منها الأدوية يومها؛ الصاروخَ الأول الذي أصاب ملجأ مجاورا للصيدلية، كان يعج بالمتحصنين، وطبعا سقط في هذا القصف ضحايا، وأصيب يومها والدي بحالة اختناق من حريق المواد الكيماوية، كما أثر الحريق على عينيه، فهو كان يعاني من ضغط فيهما، فجاءت هذه الحادثة لتسرع في فقده بصره شيئا فشيئا، حتى أغلقتا نهائيا في مطلع الخمسينات.
بعد هذه الحادثة عرف والدي رحمه الله تعالى لماذا انتقل بدون وعي منه ولا اختيار إلى كلية الصيدلة، ولم يكمل في كلية الطب. فإنه بعد فقده بصره (أَجَّرَ) شهادته ، وباتت (أجرة) الشهادة الشهرية هي مصدر الإنفاق على العائلة حتى عام ٢٠١٥ ، علما ان والدي توفي عام (١٩٩٢) ، وبقيت والدتي تستفيد من تقديمات النقابة المالية حتى توفاها الله سبحانه سنة (٢٠٠٨) ، ثم استمرت حتى وفاة شقيقي محمد، رحمه الله، في الثامن من شباط من عام (٢٠١٥).
وهكذا استطاع والدي، مع فقده للبصر أن يؤمن المورد المالي للإنفاق على العائلة، وكل هذا بسبب انتقاله إلى كلية الصيدلة بدل كلية الطب.
إنها الأقدار عندما تدخر لك خيرا لا تدركه إلا بعد دوران عجلة الحياة..
مجرد سنتين اثنتين كانتا كافيتين لترسم مسارا استمر لأكثر من ستين سنة ، يأتي الله تعالى فيه بالرزق من غيب لو اطلعنا عليه لاخترنا الواقع..
رحمك الله تعالى يا والدي .. لقد سترتنا حيا وميتا..