سميرة بارودي… المصقولةُ بالرقّة

Views: 998

الدكتور جورج شبلي

 

الفارقُ، في الأداءِ، بين المُجيدِ والمُبدِع، كالفارقِ بين مَنْ يُسَمِّعُ أغنيةً حفظَها بإتقان، فيُقالُ له : أَحسَنت، وبينَ مَنْ يَجبلُ جُمَلَ الأغنيةِ بقلبِهِ لتنطُقَها نَبضاتُهُ لا شَفَتاه، فيُقالُ له : آه. سميرة بارودي هي آه الشاشةِ والمسرح.

سميرة بارودي، الفاتنةُ التي رُزِقَ بها فنُّ التّمثيل، اعتلَت المَراكبَ الثِّقالَ في صِيَغِه، وهي بعدُ صغيرة، فأدَّت روائعَ الكِبارِ في زمانِها، وقبلَه، ثمّ تشاوفَت عليهم في النّضوج، ودفعَت الى إعزازِ هذا الفنِّ حتى نادى أشياعُ الأصالةِ بإِمامتِها. فهي، حين تؤدّي دَوراً، لا تُطالِعُنا بفنِّها كما غيرُها، وإنّما بقلبِها وروحِها، بحيثُ يبدو كلُّ نَفَسٍ من أنفاسِها، قلباً يخفقُ، وكلُّ لفتةٍ من لفتاتِها، روحاً تَثور. 

 

إنّ حُضورَ سميرة بارودي، في رقّتِهِ وجزالتِه، له شخصيةٌ منفردة، فهو جزءٌ من رقعةِ الحضارةِ المسرحيّةِ، أو من عصرِ فنِّ التّمثيل، في لبنان وفي الشّرق، يمتلكُ قدرةً متفوّقةً حوَّلَتِ الوقوفَ على الخشبةِ، أو أمامَ الشّاشات، من تعبيرٍ مبسَّطٍ، الى خَرقٍ لأَسرار التّمثيل، وكأنّ الأمانةَ في عُهدةِ ساحر. من هنا، كانت سميرة سلاحَ النّجاحِ السرّي لأَيِّ عملٍ في المسرحِ وفي التلفزيون، وما أكثرَ العيونَ التي حَدَجَت بالحَسَد.

هذه المعلِّمةُ الجَميلةُ ذاتُ الطلَّةِ الوضّاحة، منعَت أن يكونَ نجاحُ أيِّ عملٍ، لها، مُتَعَسِّراً، لأنها خلقَت لفَنِّ التّمثيلِ أُلوفاً من العُشّاقِ والأصدقاءِ، هؤلاءِ الذين لم يقعْ تَذَوّقُهم فنَّها اتّفاقاً وبِلا استعداد، ولا يقلُّ أَثَرُها في أذواقِهم عمّا يقدِّمُ الشِّعرُ البليغُ من صُنوفِ الإمتاعِ لسامعِيه.

سميرة بارودي المتمرِّسَة في صنعِ الرّوائع، تفرضُ سيطرتَها على الخشبة، وعلى الشّاشة، وكأنّ بينها وبينهما تحدِّياً. وسيادتُها ليسَت منحولةً أو مُستَعطاة، لأنها لم تصل الى العرشِ عن طريقِ التملُّقِ أو التّفاوضِ، كما الكثيرون، فمقدرتُها الفذَّةُ ذاتُ الفاعليّةِ المتفرّدة، وارتفاعُ مستوى الثّقةِ بالنّفسِ لديها، قد 

منحاها النَّصيبَ الأوفرَ في إنجازِ مكانتِها القيادية. وإذا كانت خشبةُ المسرحِ قد خفضَت لها جناحَها، فليسَ لأنّ سميرة قد غَمَزَتها…

إنّ مكوّناتِ موهبتِها أنتجَت لها طائفةً من المهاراتِ، وذكاءً في إدارةِ المواقفِ والمَشاهد، ما شكّلَ مقاييسَ ثابتةً للتعرُّفِ الى المَوهوبين. وإنجازاتُها في فنِّ الأداء، المحافِظَةُ على التزامِ التَمَيّزِ وإثراءِ العملِ التّمثيلي، انطلقَت من دافعيّةٍ عاليةِ المستوى، ومن ساحةِ انتباهٍ واسعةٍ لِضَبطِ الذّات، ومن قدرةٍ مشهودةٍ على نقلِ الحالةِ المشهديةِ الى العيون، لاقتباسِها بالعَدوى.

سميرة بارودي تاجٌ لنهضةٍ مسرحيّةٍ لأنها ساهمَت، مع غيرِها مِمَّن يُشبِهُها، في نقلِ التّمثيلِ من أسلوبٍ الى أسلوب، ومن روحٍ الى روح، وإيصالِهِ الى عصرِ القوّة. لقد اتَّحدَت سميرة بفنِّها الذي وصَّفَتهُ بأنّه الإشعاعُ الذي اغتذَت منه أَلَقاً، واستظلَّت بفنائِهِ محافِظَةً على ما في طيِّباتِ نفسِها، من رزانةٍ، ووقارٍ، وأَنَفَةٍ مُصانةٍ من الدَّنَس. لذلك، كانت سلامتُها الفنيّةُ سليمةً، واستقامةُ أحوالِها مستقيمةً، فأقبلَ عليها الجمهورُ بوجهٍ صَبيح، هي التي لم تكن بحاجةٍ الى مَن يوقظُ فيها كريمَ الشّمائل.

 

سميرة بارودي سلكَت سبيلَ الرقيِّ الفنّي، فكانَت، عن حقّ، فَتّانةَ النّاس، في سلامةِ لسانِها، وبراعةِ أخذِها لممرّاتِ المَشاهد، وصفاءِ قريحتِها التي اتّصلَت بالإبداعِ بأشدِّ اتّصال، فكانت واحدةً من حكاياتِ غرامِ الخشبة، رصَّعَتها بفَيضِ الفطرةِ وجُودِ الطَّبع. ولمّا كانت المرأةُ زُلالَ الخَلق، لم يُحجِمِ اللهُ عن تزيينِ الأرضِ والسمواتِ بها، التزمَت سميرةُ المرأةُ، بأن تُصَوِّرَ، هي أيضاً، وبالفنِّ، محاسنَ الوجودِ بحماسةٍ واستعدادٍ بالِغَين.

إنّ عملَ سميرة، في النِّطاقِ الفنّي، مُطَعَّمٌ باعتلاءِ منابرِ الدّفاعِ عن حقوقِ الفنّانين، والدّفاعُ حِملٌ ثقيلٌ في مجتمعٍ يودِّعُ الحقُّ، فيه، الحقَّ. لكنّ سميرة القَلِقَةَ من تَراخي السّلطاتِ في مسألةِ الحقوقِ، والعدالة، وصَونِ كرامةِ الفنّانِ الإنسان، لم تكتَئِب ليَشهَقَ أبناءُ قومِها الفنيّ من كآبتِها، بل نَشَطَت الى المطالبةِ بما هو حقٌّ لكلِّ فنّان، بمواجهةٍ قويّةِ القوائم، تستنهضُ همَّةَ الذين يرتبطونَ بالحركةِ النقابيّة، وترسلُ الى القَيِّمينَ على إحقاقِ الحقوق، أنّ هَدمَ بُنيانِ الحقِّ صَعب. لكنّ مَنْ أَلبَسوا الحقَّ بالباطلِ، كانوا قد عقدوا معها قَرضاً مَطلبيّاً من دونِ نِيَّةِ وَفائِه، فما كانوا إلّا مارِقين. 

لقد وضَّبَت سميرة للتّمثيلِ حديقةً كثيرةَ الفواكه، وأتقنَت أنواعَ الأداءِ في الإذاعةِ والمسرحِ والتلفزيون، عُقوداً من التألُّقِ، فحَظِيَت بإِرثٍ وارِفٍ من الشُّهرة، في حين أنّ الكثيرينَ مِمَّن نزحوا الى أرضِ التَّمثيلِ قد انتهَت صلاحيّتُهم قبلَ أن يبدأوا.  

      

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *