عصر البشر وأزمنة الأذكياء

Views: 843

مازن ح. عبّود

في العصر الرقمي تمسي الحقيقة نسبية، والحق وجهة نظر، والناس حسابات رقمية. 

في العصر الرقمي يسلّم الإنتاج الى الالة وينتزع من البشر عصر البشر. يعود البشر الى عزلتهم وكهوفهم وصحاريهم وبراريهم. يصيرون يهومون بحثا عن لقمة، وعن عمل. يصيرون يغضبون ويحزنون لكن في صمتهم لا شيء يجمعهم الا الآلات الذكية والمنصات الرقمية. فيصير غضبهم رقميا وانتفاضاتهم وهمية تخدم ما لا يعلمون. يراقبون عن بعد وعن قرب. اما حريتهم فتصير من استهلاك. 

وكيف يكون المقيّد والمسيّر عن بعد حرا؟

الحر هو المتحرر حتى من التكنولوجيا. الحر هو من يمتلك الحقيقة الثابتة. الحر هو من يمتلك المعلومة، لا من يتلقى ما يرمى اليه وعليه من معطيات كي يلتهمها. 

كيف تكون حرا ومن يتحكم ببحر المعطيات يعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك؟  

انت عبد لسيّد تجهله، والازمة بانك تجهل بأنك عبد أصلا. تظن بأنك حر. وما ترك لك الا حرية الاختيار ما بين الجينز الأسود او الأزرق. 

وتسألني يا طفلي لماذا ينتكس كوزموس بطلك؟ 

ينتكس لأننا لسنا اصحاء. لا لا ليس الإنسان مجرّد حرّية تخلق ذاتها بذاتها كما يخالون، او كما يجعلونك تخال. فالإنسان لا يَخْلُق نفسَه. إنه روح وإرادة، ولكنه أيضًا طبيعة كما قال بينيديكتوس السادس عشر يوما.

يتحكم الذكاء الاصطناعي بالبشر ويهيمن الأقوياء ويصير القلب صرة نقود.  تصبح العلاقات القوية نقمة. ويسود التباعد، ويحل محل التفاعل. يسهل ما خفّ ودلّ وحتى العلاقات تمسي مخففة. 

في عصر الذكاء لا يعود الاختلاط والتفاعل ضرورة. اما الوجه فلا يعود ينظر الى الوجه بل الى الشاشة والالة ونوافذ الأقوياء الرقمية. 

تهجر الناس المدائن ولا تعود تتفاعل جماعات، جماعات. تعود قطعان متناحرة تتقاتل على الموارد التي لن تكون متوفرة لها بل لحفنة اسياد تتحكم بها وبالموارد.  

تعود الى بيوتها كي تعمل وتحزن وتفرح وتمرض وتموت فلا تعكر صفو مشغليها. تفرغ امكنة الإنتاج والتفاعل من ركباها. 

نعم سيركب البشر زوارق عزلتهم ويبحرون في الوحدة باحثين في العوالم الرقمية عن لقمة عيش. يرمون هناك اقذارهم وغضبهم ونقمتهم.  فيلوث البشر فكر البشر. 

لا تعود المكاتب والشركات امكنة يا ولدي بل تصير منصات وأنظمة تسيّر عن بعد.  وينشأ اقطاع جديد أكثر سطوة من الاقطاع الديني والزراعي والمالي. لانّ عنوانه سيكون رقميا. وسيكون الاقطاعيون الجدد مجهولي الهوية والإقامة والانتماء. 

وستزداد الهوة ما بين الضفتين، ضفة المشغل الذكي من جهة، والمستخدم غير الذكي الذي سطحوه وانهكوه واوكلوا امره الى آلة يتحكم بها ذكاء اصطناعي من الجهة المقابلة. وذاك يعرفك ويتحكم بك أكثر من ذاتك لأنه يمتلك كل المعلومات والمعطيات التي افضيت بها. فحللك وفهمك وصار يتقن توجيهك. 

وسينزعون عنك الادراك بعد ان سطحوا حريتك فصارت الاختيار ما بين البيتزا والهامبرغر ان امتلكت العملة الرقمية، او الاختيار بين هذا الحصان المناسب او ذاك الأكثر الملاءمة لمصالحهم. 

ويفخر البشر بقدرتهم على النطق. ويصير الاذكياء في خدمة الأكثر ذكاء. وتفبرك للعوام ما يجب ان يلتهموه من اخبار تقدم لهم، فيبنون على تلك الأشياء مقتضياتها. وننتقل من عصر النفط الملوث للبيئة الى عصر الذكاء الملوث للأخلاق والسالب للقيم والمهين للطبيعة البشرية. ندخل في عصر الطاقة المتجددة والبشرية الراكدة.  

بدأت تختفي المخازن والدكاكين التقليدية لحساب ما هو مجهول من منصات البيع. فلن يبقى ثابتا ومعلوما الا المستهلك.   

في ازمنة الاقطاع الرقمي تزول الخصوصيات والتلوينات وتصير الحكومات من ورق. وتصير الدول سجونا بجنود لضبط الناس وجدران مكهربة.

التقيت البارحة بآلة ازالت بشرا. التقيت بها وقد كانت تعمل. زرتها، لبّت طلبي لكنها لم تشبع عطشي. ما كانت تلد ولا تأكل ولا تتنفس ولا تمرض ولا تتألم. بل كانت تعمل. وفي الشارع المقابل كان الشباب يتسكع وينتظر رحمة من فوق. وما يفصل الشارعين كان وهادا عميقة.

عصر الالة يحلّ محل البشر. عصر الذكاء يلتهم القواعد والقلوب وصفو العيش.  ما عاد القرار في اياد من وضعوا في الواجهة.  لانّ من في الواجهة ليس الحاكم ولا الاصيل. هو قائم بأعمال من هو مجهول. هو مندوب ضبط الناس الغاضبة والمأزومة والفقيرة والمتألمة.  عاجز هو وعجزه اوصله.

انّ علّة تدهور العالم يا بنيّ تفلت الذكاء من ضوابطه الأخلاقية. علّة سقوط العالم هي في استبدال الحقيقية الثابتة بالنسبي والمتحرك. فصار كل شيء مجاز حتى الاتجار بالكرامة الإنسانية المجروحة. سننتقل سريعا من عصر البشر الى عصر الذكاء. 

علّة العالم في اعتبار انّ لا سلطة تعلو على سلطة العقل الذي يبقى محدودا مهما نما. علّة العالم هو ان كل شيء يعتبر نسبيا الا المصالح والجشع والطمع والانتفاخ الى حدود الإلغاء. 

سيبيد الاذكياء، الاذكياء حتما ولن تبقى الا القلوب.  لن يبقى الا الأنقياء الذين يصنعون ارضا على شاكلتهم. 

 لا تخف، لأنّ فوق القدير قدير. الذكاء لا يحرر ولا يؤله بل يقيّد ويأسر إذا ما التهم القلب. لا ليست سلطة الذكي ازلية ودهرية ولن تكون. 

فلتقصر هذه الأيام، فلتقصّر.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *