زجل حجري

Views: 542

د. جان توما

تشعر عندما يواجه بناء من الحجر الرملي المحلّي بناءً باطونيًّا حديثا متنكّرًا باللونين البحريين الأبيض والأزرق أنّ مبارزة زجليّة دائرة بين شخصين، كلّ يدافع عن حسناته، ويبرز فوائده، ويبرّر الحدث العمراني القديم أو المتجدّد الحديث.

يبدو الدرج الممتد صعودًا حكمًا بينهما، يسجّل المبارزة، يصفّق للصّورة الشّعريّة الحلوة، يطرب للقافية الموسيقيّة، يبتسم للمحة زجليّة تتغزّل بابنة الجيران أو بنت الحيّ المقابل.

يعرف الحجر الرملي القديم أنّه شُغل أيدي عمال حرفيين، يأتون قبل طلوع الشمس، يجرّون الحجارة لثقلها، ويعملون عليها لتنعيم أطرافها وتجهيزها للبناء، وكما يلملم القروي حجارة بيته من السهول والبساتين، كان ابن المدينة البحرية يجمع الحجارة منالشواطىء، أو يقصّ الصخر الناتيء بحرًا ليصقله وليصير صالحًا للبناء.

ما همّ حجارة الجدران، الحجريّة منها أو الباطونيّة فقد استقبلت أشعة الشّمس وضوء القمر ورسائل العاشقين وأغانيهم، وحفظت أسرارهم ولواعج أفئدتهم.

من هنا لا عجب إن التقيت فيما تزور الأبنية القديمة المتراكمة المهجورة الشاعر قيس مجنون بن عامر (٦٤٥-٦٨٨م) يطوف بين الجدران الباردة يقبّل حجارتها، يتلمّس خشونتها أو نعومتها، يتأمل تضاريسها، ينكّش بين شقوقها، فهو إن قبّلها فإنّما يقبّل من سكن هذه الديار، وجال في هذه الادوار، ومن نام على عشق في هذه الآثار، ومن زاره الأرق ونزل بضيافته من شدّة حنين النار في القلب والعقل واضطراب نبض الشرايين.

إنّ المواجهة خيالًا وذكريات بين الحجر المشغول باليد والباطون المشغول بالآلة كالمواجهة بين وجه الحبيبة ووجه الحبيبة، فوجهها مالىء الدنيا وشاغل القلب والناس، فيما الدرج ينتظر خطوات من غاب ورحل دون وداع.

(*) الصورة للصديق كابي دعبول- حيّ في بلدة أنفه- الكورة

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *