فؤاد سليمان في ذكراه التاسعة والستين… صوت صارخ أبدًا: يا أمتي إلى أين؟

Views: 1366

سليمان بختي 

لم يعرف لبنان أديباً مثله بواقعيته الثائرة ولا بحدة جرحه والمه ولا بصدقه . هو من الادباء الحاضرين  في وجدان وذاكرة اللبنانيين ، وفي ذلك  التوق المستحيل  إلى نهضة مرتجاة . 

 نتذكره اليوم لأننا بحاجة إلى  صدقه الصارخ ، وإلى إيمانه القوي  بأنه فؤاد” قادر من أي مكان يكون فيه ان يصنع الدنيا ويصنعها أجمل  مما هي”  بحسب منح الصلح . إنه الأديب والشاعر  فؤاد  سليمان (1912-1951)  ولد  في فيع الكورة . عاش طفولته في بيئة القرية وعرف الشوق باكراً مذ  سافر والده إلى بلاد الغربة . 

 

 تخرج من مدرسة الفرير طرابلس (الزاهرية ) وحاز الأجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة  القديس  يوسف ..  

انتمى باكراً إلى صفوف النهضة القومية الاجتماعية. وكان مع عبد الله قبرصي حاملاً الأزهار إلى مي زيادة في بيتها في  شارع السادات رأس بيروت لتهنئتها بالسلامة بتكليف من  أنطون سعادة . ولما فتحت لهم الباب قالت:”أهلا وسهلاً بأزهار الأدب”. 

درّس اللغة العربية في الانترناشونال كوليج  1937_ 1951  ، وأسس  فيها النادي الأدبي ، وحرّر مجلة “صدى النادي” . ساهم في الصحافة اديباً  وشاعراً وناقداً وحرّر زاوية “من نافذتي” و ” وما أرى وما أسمع ” في جريدة “النهضة” كما تولى رئاسة تحرير مجلة “صدى المرأة” (1930-1948)  كما حرر زاوية ” صباح الخير” في جريدة “النهار”  ووقع مقالاته باسم  “تموز” وله العديد من المقالات  في المجلات اللبنانية. دخل إلى الصحافة أديباً وخرج منها أديباً ومناضلاً وثائراً ورمزاً . 

منحته الحكومة اللبنانية وسام المعارف من الدرجة الأولى عام 1951. توفي عام 1951 ولم يتجاوز التاسعة والثلاثين من العمر وبعد ان ترك أعمالاً لا تنسى مثل “درب القمر” (أنشودة قروية لبنانية ساحرة ) و” القناديل الحمراء ” و” يا أمتي إلى أين؟” (ولم يزل السؤال مشروعاً) و”كلمات لاذعة” و” أغاني تموز” (شعر) و” في رحاب النقد” و” يوميات ورسائل”: وقد صدرت أعماله الكاملة في مئويته. وهناك نصب تذكاري له في قريته فيع .

المفجع في فؤاد سليمان أنه كان على حق . صرخ غير مرة “أي يد لم تتلمس ألف جرح في ألف جسد في ألف قلب “أو” ليته كان لي أن أملأ صباحات الناس بالخير ” أو” أصحافة هذه التي ضيعت كل القيم الروحية الأصيلة في الإنسان  وهزلت حتى بانت عظامها من الهزال” . هذا كلام عمره أكثر من سبعين سنة ، فماذا عسانا نقول اليوم ؟.

أوحين يصرخ في كتابه “القناديل الحمراء ” أين هوالشعب الذي لم يرفع رأساً في وجه الجلاد .. أين هوهذا الشعب الذي نجّر أخشاب نعشه؟ “

هكذا هوفؤاد  سليمان عاصفة لا تهدأ وشعلة لا تخبو، وموقف أصيل في الكتابة والحياة وجرأة القول في وجه الكبير وفي وجه الجلاد وفي وجه المتقاعس. 

 

ولكنه في الوقت عينه رقيقاً عذباً دافئاً فهويقول في ” درب القمر” وعندما امشي في طريقي إلى هموم الحياة أجر رجلي على الإسفلت المحموم وراء القرش والرغيف وعيناي  في ظلمات الأرض يمشي بجانبي طفل وقلبه وروحه وعيناه تتطلع إلى هناك…  إلى قريتي ” . واخبرني ابنه وليد  سليمان أن طريق درب القمر في فيع هو قيد  التجهيز ومزيناً بأقواله . وسألته “بعد تقريباً  سبعين عاماً على رحيله ماذا يعني لك  فؤاد  سليمان  الوالد والأديب” ، قال: “الكرامة” وبغصة صمت دامع . 

تحدث فؤاد سليمان عن غربتين. غربة الإنسان الذي ترك  بلده سعياً وراء طموح  “إلى غابات الزمرد والياقوت ” حتى بات الناس في بلادي يقولون  ” بيننا وبين  البحر تارات يا ولدي” لأن البحر فتح الباب لهجرة لا تنتهي ولخيبات لا تحصى ؟  والغربة الثانية غربة الإنسان في وطنه “حيث لا يجد  فيه رغيفاً يأكله وماء يشربه وقميصا يلبسه. ماذا يفعل الإنسان في وطن تتنازعه الطوائف والاحزاب والعائلات ، فلا  يبقى للشعب غير التراب اليابس؟ . ماذا يفعل الإنسان في وطن  يبصق الدم فيه ليعلم أولاده ، أو ليبلبسهم  حذاء في يوم عيد ” (القناديل الحمراء) . مرة جديدة هذا الكلام عمره  70  سنة  فعن أي مئوية نتحدث اليوم ؟. 

 وكان يعرف فؤاد  سليمان  مبلغ الزيف لدى الحاكمين ويقول لهم ” أنتم في مراكزكم  لتخدموا الشعب لا لتستخدموه” .

كان قلمه  كالسوط وكان يريد  حقاً أن يطرد  اللصوص  من الهيكل ، يريد  أن يمحو كل شائبة في وجه الوطن ، يريد  أن يزيل كل ألم عن كل كاهل من أبناء هذا الشعب الطيب .

 هو شاعر  الالم  وكاتبه كما يقول مارون عبود .  ولكن تخونه أحياناً  الآمال حين لا يرى صوته يصل إلى أبعد من فضاء مأسور . يقول ” ما أقسى أن تصرخ  في الفضاء وحدك في بلد يسد أذنه وقلبه وعينيه ويمشي على العمى …” ويكتب من ألمه ويكتب من دمائه ويكتب من لهب النيران ويكتب  من قلبه لما يريده حقاً وخيراً للبنان واهله. ويخاف أن تضيع الكلمة وتصبح  من  سقط المتاع. ويعترف بينه وبين نفسه ” هذا بلد  يريد أن يفتح  بطنه وتمتلئ معدته ويصغر رأسه وتزم قامته . وليس للحرف قيمة ولا  ثمن في بلد  الأقزام”. 

 

 جسّد فؤاد  سليمان في أدبه مأساة الاديب الحقيقي الذي يعطي ويرفع من شأن بلاده ثم يصطدم في واقعها وجدرانها ويتمزق فوق صخورها . وهكذا كتب غسان تويني في ذكرى فؤاد سليمان عام 1954 “غمست ريشتك في قلبك تكتب لنا  تاريخاً من دم ” .

 لم تنل الايام بعد  من فؤاد سليمان ولا  من أدبه ولا من عاطفته التي  من نار ولا من  كلمته التي من حديد محمى . لقد  ندهته حاجات شعبه فتصدى لها ولبى النداء بالحرف والكلمة والموقف والثورة والألم . 

نحن اليوم بحاجة إلى صوته وإلى كلماته المتوهجة بالنار والنور ، وإلى ضميره ليقف معنا  ضد كل هذا الخواء والزيف وهذا الفساد المدود  والألم الذي لا  يتحمله بشر . وتراني أسأل كيف أوجعك كل ذلك في هذا البلد حتى انه قتلك ؟ وكيف عمرت للبنان في  قلبك قصراً  من الاقمار والنجوم ولم تستثن زهرة أوحجرة أودربًا اوعشبة او وجهًا . كأنك قامة الوطن ملء عين الوطن واديبه الوحيد . 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *