ستة وسبعون عاماً على الشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي المتنوّر بأريج المعرفة والنهضة

Views: 787

سليمان بختي

الشيخ مصطفى الغلاييني (1886-1944)، الصحفي والأديب والشاعر واللغوي والأستاذ والشيخ البيروتي المتنور، مضى على غيابه ثلاثة أرباع القرن ولم يزل أريجه يفوح في حديقة النهضة. مثله في ذلك مثل كتابه “أريج الزهر” (1911) الكتاب – الاخلاقي الاجتماعي الأدبي – الذي اهداه إلى “شيخي واستاذي عالم الشرق وفيلسوفه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وتوقيع المُقرّ بالجميل”. وهذا الكتاب أعادت مجلة “الدوحة” القطرية إصداره في سلسلة “كتاب الدوحة” في العام 2016.

هو مصطفى بن محمد بن سليم بن محي الدين بن مصطفى الغلاييني. ولد في بيروت عام 1886 وتوفي فيها في العام 1944، وحمل لها دائماً في قلبه وعقله وجهاده حباً جماً. تلقى تعليمه في بيروت وتابعها في مصر تلميذاً للشيخ الإصلاحي الكبير محمد عبده. بدأ نشاطه العملي كأستاذ للغة العربية ومبادئ الفقه الشرعي بالكلية الإسلامية في بيروت. وكان له حلقات علم في الجامع العمري الكبير في وسط بيروت.

انضمّ سنة 1910 إلى جمعية الاتحاد والترقي وأصدر مجلة “النبراس” الشهرية لمدة سنتين في بيروت. ودرّس في بيروت في المدرسة السلطانية لأربع سنوات. 

 

ويروي الفنان مصطفى فروخ في كتابه “طريقي إلى الفن” (نوفل 1986)، إنه كان في التاسعة حين راح يسمع نفر من المشايخ يقولون له: “يا ولد حرام الصور… الله سيحرقك بنار جهنم”. فتهيبت. ثم قابلني نفر من المتحذلقين في الدين وأخافوني من جديد من النار ومن جهنم”. هذا عدا الوعظ من العائلة. فتوقفت. واتفق أن كلّفت بإلقاء كلمة في حفلة المدرسة، ولما أنهيت أوقفني الشيخ مصطفى الغلاييني قائلاً: “كيف الرسم عندك اليوم؟ فأجبته بسذاجة الولد: أبطلته. فقال: لماذا؟ قلت: قالوا لي إني سأضطرّ يوم القيامة أن أخلق لرسومي أرواحاً وإلا ألقيت في جهنم. فضحك ثم قال: طيب! أنت صوّرها وأنا أضع لها أرواحاً. ومنذ ذلك اليوم وأنا أصور والشيخ الغلاييني يضع الأرواح…”.

عيّن خطيباً للجيش العثماني الرابع في الحرب العالمية الأولى. وصحبه من دمشق مخترقاً الصحراء إلى معركة السويس من جهة الاسماعيلية. وشارك في حرب الترعة ضد الجيش الانكليزي وحضر المعركة وشهد الهزيمة. بعد الحرب أقام في دمشق مدة وتطوّع للعمل في جيشها العربي. ولكن شوقه إلى بيروت لبث يضطرم وظلّ يجذبه إليها أنى اتجهت فيه السبل. عاد إلى بيروت فاعتقل فيها بتهمة الاشتراك في مقتل “اسعد بك” المعروف بمدير الداخلية (1922) ولكن أفرج عنه لاحقاً شرط أن يرحل إلى بلد آخر، فقصد شرقي الأردن حيث عهد إليه اميرها (الشريف عبدالله) بتعليم ابنيه اللغة العربية والعلوم الشرعية والفقهية. فمكث هناك لمدة سنتين ولكن ظلّ النداء إلى بيروت والحنين يردّه إليها. ولكن هذه المرة ابعد إلى جزيرة أرواد معتقلاً في سجنها المركزي لسبعة أشهر. ثم أطلق سراحه شرط عدم العودة إلى بيروت. أبعد إلى فلسطين ولكن ما إن وصلت السفينة إلى يافا حتى خرج منها عائداً إلى بيروت، إلى الضوء المزروع في عينيه أبداً. لم تمضِ أيام حتى اعتقلته المفوضية الفرنسية وأبعدته إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية فاستقر عند رئيس بلدية حيفا صديقه القديم. وما إن شعر أن وطأة فرنسا في الشرق أخذت بالخفوت حتى عاد إلى مدينة بيروت مرة جديدة واخيرة.

عاد إلى مدينته وتولّى منصب رئيس المجلس الإسلامي فيها ومستشار للمحكمة الشرعية العليا وقاض شرعي.

عاد ليكمل مؤلفاته إلى أن وافته المنية عن عمر لم يتجاوز 58 سنة قضاها في جهاد المعرفة وصراع الحق والحرية والعمل لأجل التقدم والنهضة. 

من مؤلفاته “نظرات في اللغة والأدب” و”عظة الناشئين” و”لباب الأخيار في سيرة النبي المختار”، “الإسلام روح المدنية”، “في الرد على كرومر”، “نظرات في كتاب السفور والحجاب” و”الحجاب في الإسلام” و”الثريا المضيئة في الدروس العرضية” و”اريج الزهر”، و”رجال المعلقات العشر”، و”جامع الدروس العربية” (وهذا الكتاب كان له تأثير لغوي واسع على أجيال) وجمع ما نظمه من شعر في أغراض مختلفة في كتاب “ديوان الغلاييني”، ومن ديوانه هذا البيت: “ومن رعى غنماً في ارض مأسدة/ مات الرعاة وبادت تلكم الغنم”.

اعتبر الغلاييني أن “أخلاق الأمة – إن خيراً وإن شراً – تنطبع في مرآة وجدان الحكومة”. وبرأيه أن النهضة هي قادة كبار متعلمون إذ يقول: “النهضة مهما كانت عظيمة ومهما بلغت من التقدم لا تفي بالحاجة إذا لم يكن في الأمة قادة كبار متعلمون التعليم الراقي، وعارفون أصول التربية والتعليم الحديثة”.

ويسأل: “ماذا دهانا؟ أهو قحط رجال أم قحط وجدان”.

وننهي بما خلص إليه ذلك الشيخ المتنور، المحب لمدينته وأهله ووطنه، والمجتهد دوماً لأجل نهضتهم والساعي لتقدمهم، إذ يقول في كتابه “أريج الزهر”:

“والسلام على من يقول الحق ويعمل به ويسعى بكل ما في وسعه لخدمة أمته ووطنه. ولا سلام على من يقدم الغاية الشخصية التي تضرّ بالمجتمع على المنفعة العامة. والخلاصة نحتاج إلى قول فعمل. فالعمل العمل العمل”.

هذا كلامك يعبر الدنيا إلينا كأنه الآن بلا حدود ولا قيود، 

فسلام منك وسلام لك وسلام عليك.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *