ثواني تفصله عن…

Views: 449

منى دوغان جمال الدين

 يمتعض، يحبس انفاسه، تنكمش روحه، تتسارع وتيرة دقات قلبه وهو يراقب عدد الثواني المتبقية ليعلن ترحمه على دقيقة تيتمت قبل أن تمضي وحيدة وترحل؛ ثم يلتفت إلى دقيقة جديدة مصيرها محتّم كسابقتها، فناؤها مكتوب على ناصيتها قبل ولادتها: تتثاءب لأول وهلة، قبل أن تشرع بمقارعة الثواني، تتوسل إليها بأن تكف عن طنينها الذي يصم الآذان، تستنجد جدران الغرفة الضيقة الصمّاء، تحمل سيفها الدونكيشوتي، تحارب خيالها، فتقضي بأوهامها على ما تبقى من انفاس.

تتزايد وتيرة تكتكة الثواني مصارعة الزمن، غير آبهة بمصير من يطلب الاسترحام، وقابض الروح الملثم، يفرك يديه العريضتين منتظراً بشغف الزبون على منصة الإعدام.

الزمن في سباق مع ضمير من حكم عليه بالإعدام، وشريط الذكريات في سباق مع الحاضر. من سينتصر؟ الماضي أو الحاضر؟ الضمير المعدوم أو المصير المدوّن والذي لا مهرب منه؟

 

للحظات يتوهم أن الماضي أصبح في خبر كان، لكن الذكريات لا تكف عن مطاردته حتى حينما يغمض عينيه، تطارده ليلا نهارا، في كبوته وصحوته، فيبدأ بتدوين ما آلت إليه يديه.

باصابعه المقززة التي سالت عليها دماء ابرياء يبدأ برسم صحوة رجل على الجدران الرمادية، يحفر بأظافره للتاريخ ذكريات رجل أصيب بجنون العظمة. فكانت محكمة الدنيا والآخرة بانتظاره، والمقصلة تصدّرت صفحات من ارتضى أن يُيَتّم أطفالا ليعيش عيشة أمراء الحرب.

تتسارع الثواني، ومع كل ثانية يتزايد عدد الضحايا حتى اعتزل اللون الرمادي جدران الذكريات القاتمة لتغزوها همجية اللون الاحمر الدموي.

ومع كل ضحية يأتي ملك الموت، بمطرقته الحديدية، يصرع جسده ويعصر قلبه، يهم ليقبض على روحه، ثم يتركه بعض الوقت لشبح تأنيب الضمير. يتذكر للحظة الابراج العاجية التي شيّدها على حطام أرواح شهداء وعلى بحور من دموع امهات وعلى محرقة قلوب اطفال بائسة.

يتذكر كيف سافر على دخان طائرة مطلية بغبار المادة الفوسفورية والمكللة بجمجمة الموت، والضحكة الهيسترية المجنونة تعلو شفاه قابضي أرواح اليتامى والفقراء؛ ضحكة تغزو سراب الصحاري وظلمة الكهوف لتستقر على مائدة الجماجم. يتذكر كيف كان، على موائد البزخ، يلبط برجليه الأرز والبرغل ليتلذذ باللحوم البشرية. يتذكر كم من امرأة ركعت على قدميه طالبة الرحمة والشفقة قبل أن تترمل…

وماذا يتذكر ويتذكر، فالحائط امتلأ بالعناوين والصور وفاحت منه روائح الموت ولم يعد يتسع للمزيد، والثواني تدور بسرعة حتى توقفت للحظة عن الدوران معلنة وقت التنفيذ…

والحكاية لم تستكمل والحائط ينتظر المزيد… والمزيد…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *