“شامة”

Views: 521

خليل خيي

(المغرب)

  نثرت خمارها بعنف ورمت به في السماء . تطاير شعرها الأسود الحريري معلنا العصي .. أدخلت أبناءها الثلاثة إلى دار أمها وخرجت لتجلس على عتبة الباب .. وبدأت تشتكي لنساء الحي من زوجها وهي تشتمه وتسب .. وهن يطلبن منها بأن تلعن الشيطان ولد الحرام وتستر نفسها .. فترد عليهن :

-ليس هنالك شيطان ولد الحرام مثل بني آدم !

هذه هي شامة .. جميلة .. في العقد الثالث من عمرها .. في خصام دائم مع زوجها النجار ، ومع الحجاب الذي تضعه لتغطي شعرها الطويل ..و تزيله غضبا لتنتقم منه في تحدي له ، للشريعة ، وللأعراف الدينية .. وحين تعود إلى الحي ، فالرجل الوحيد الذي تشاركه همومها وتحكي له عن أسرارها هو سعيد .. ويلقبونه بسعيدة لأنه مثلي .. من أطيب الخلق ،.. فهو يرد الشر بالخير رغم رغم قسوة الحي والمجتمع عليه .. يساعد الشيوخ ونساء الحي في حمل القفاف وقارورة الغاز وكل ما هو ثقيل .. وفي القيام بالتبضع مقابل قليل من المال دون أن يطلب منهن ذلك .. يصبّح ويمسّي بالخير.. لكن حين يحس بالضغط .. ضغط القدر الذي جعل خلقته ليس كباقي الناس ، إضافة إلى عنف الحي ، وشتائمهم يبدأ بالاحتجاج .. بالسب .. بالصراخ طيلة النهار من الصباح إلى المساء .. وينهي يومه بالبكاء والعويل .. فتذهب أمهات الحي ليأخذن بخاطره .. ويمسحن دموعه .. لينام ويرتاح ..

 

اعتاد سكان الحي على شامتين .. شامة الفوضوية المتبرجة ضدا في زوجها .. فتلبس كل الألوان إلا الأسود حين تغضب من زوجها.. ذات الضحكات الجهورة .. والعينين الكبيرتين السوداويتين .. والثغر الرائع والأنف المرسوم بدقة ربانية يتوازى مع جمال وجهها الفتان .. والشعر الطويل اللامع الأسود سلاحها في غضبها وثورتها على زوجها الذي حار في ردعها عن كشفه للناس ..

وشامة الصامتة .. الهادئة .. المتدينة .. القليلة الكلام .. الملفوفة في ثوبها وخمارها الأسودين .. ترى العالم ولا يراها من خلال الفتحة الرقيقة التي تمر على العينين ..فأهل الحي يعرفون تفاصيل جمالها ولا يضطرون إلى السؤال فجمالها فارض نفسه رغم الغطاء ورغم الستار..

زوجها الحاج عبد الرزاق النجار .. في العقد الرابع من عمره .. متزهد .. متدين .. وقور .. نظراته صارمة .. أسمر اللون .. لحية معفو عنها بدون شارب .. لباس متواضع بسيط .. طاقية بيضاء تغطي رأسه على الدوام .. وسترة من ثوب واحد رمادي تغطي جسده كله .. نفس النعل لا يفارق رجليه .. حين تراه تشك في أنه ينتمي إلى إحدى الحركات الدينية التي كانت منتشرة في كل أرجاء المغرب قبل العملية الغرهابية التي أودت بكثير من الناس بالدار البيضاء …. في سفر دائم إلى الشرق الأوسط وأفغانستان .. له منزل يتكون من طابق أرضي وطابقين .. الأرضي يستعمله للنجارة والطابق الأول للتجمعات الدينية.. تلاوة القرآن ..أحاديث.. تفاسير .. ندوات .. صلوات .. ثم الأكل .. والطابق العلوي مخصص لعائلته التي تتكون من زوجتيه وأبنائه من شامة .. فالزوجة الثانية راضية بقدرها .. مطيعة .. ليس لها مشاكل مع زوجها أو مع شامة .. تحب أطفاله وتعاملهم مثل أبنائها الذين لم ترزق بهم .. وحين يكون لدى عبد الرزاق ضيوف .. عند الأكل تمدا للحاج عبد الرزاق الطعام في منتصف الدرج ليأخذه منهما ويحمله إلى ضيوفه بنفسه لأنه ممنوع على أي من الرجال رؤية نسائه .. كما هو شائع ومعروف ..

بين شامة والحاج عبدالرزاق حب أحمق .. مجنون .. خليط من الغيرة والعنف الجسدي والرمزي ، والمكائد .. يضربها فتهرب ومعها أبناؤها إلى دار أمها حيث أختها الأصغر منها غير المتزوجة .. وأخوها وزوجته .. وأختها المطلقة ببنت من رشيد ابن الحي .. مهاجر في فرنسا .. شاد جنسيا .. مدمن على الخمر والحشيش .. كانت حين يعود إلى المغرب تظل تتأمل فيه كل الأوقات من النافذة .. وتبادله النظرات من النافذة طيلة النهاركأنها تناجيه لكي يجمع الشمل من جديد ولو بعاهاته غير المقبولة من طرف الحي ..

في يوم أخبر الحاج عبد الرزاق زوجتيه بأنه سيحل عنده ضيف من نوع آخر .. من أكبر الأئمة والخطباء في المشرق .. ضيف ليس كسائر الضيوف .. ثم أعلنت حالة الطوارئ داخل البيت استعدادا لقدومه .. ممنوع الضجيج .. ممنوع الحركة .. ممنوع النزول إلى درج الطابق الأول الذي يوجد فيه الضيف .. والأكل يجب أن يكون في المستوى اللائق بحجم الرجل ..

ثم جاء الضيف المنتظر .. أكل ليس ككل الأكل .. بسطيلة بالحمام والفراخ .. السمك .. فواكه من جميع الأشكال .. مشروبات متنوعة .. ماء معدني .. وحتى من الخشيبات الرقيقة لنزع الفتات من بين الأسنان كانت حاضرة ..

من منتصف الدرج تمدانه بالأطباق وهو يدخلها إلى ضيفه .. وبعد ساعات وساعات تنتهي الأمسية الدينية ويرحل الضيف إلى حال سبيله .. ويصعد الحاج عبد الرزاق إلى زوجتيه ليهنئهما بنجاح الضيافة ، ويشكرهما على ما قامتا به من ترحاب وحفاوة لصديقه العزيز..

وسيستضيف الحاج عبد الرزاق ضيفه هذا عدة مرات .. وسيعاد نفس السيناريو .. استـعداد .. هـــدوء .. الأكــــــل الجيد.. منتصـــــف الدرج .. ورحيل الضيف .. والشكر والرضى للزوجتين..

إلا أنه ذات يوم سيدفع فضول شامة إلى محاولة معرفة نوع وشكل هذا الضيف .. في عز الهدوء تنسل وتنزل الدرج في صمت وتطل من ثقب الباب .. ترجع إلى الوراء مذهولة ! عادت لتتأكد .. استغربت !! صعدت إلى الزوجة الثانية لتخبرها بما رأت عيناها .. نزلتا وطلتا.. نظرتا إلى بعضهما في ذهول !!..

-ولد الحرام .. ولد الحرام !! .. يا له من ولد الحرام .. لقد استبلدنا !!…

 

أحستا بالغبن والبلادة لأن الضيف لم يكن رجلا ، ولم يكن كما أخبرهم ، بل كانت عشيقته !! تصعد شامة إلى السطح وتأتي بهراوة غليظة ، ثم تنزل وتدق في الباب دقات خفيفة.. يفتح زوجها الباب تدفعه وتدخل لتهيج في وجهما ضربا وعضا وركلا .. وهي تصرخ وتصرخ .. فيتجمع الحي ليتفرج على عبد الرزاق ومسرحيته الهزلية .. فيتدخل الجيران ليفصلوا بينهم في ذهول واستغراب وضحك حتى الحماقة!!

ثم رحلت شامة وأبناؤها إلى دار أمها كالعادة وفي حلقها غصة .. وحكت لنساء الحي عن فضيحة زوجها .. غير أنها في هذه المرة لم ترم الفولار في السماء لأن مقلب الفضيحة أكبر من هذا الانتقام البسيط والكلاسيكي المعروف ..

وبعد أن تهدأ النفوس ..حاول الحاج عبد الرزاق بشتى الوسائل إرجاعها إلى البيت دون جدوى.. تمر الأيام يزيد شوقه وحنينه إلى أبنائه .. يتوسل إليها وإلى كل الناس لكي يتدخلوا من أجل أن تعود شامة إلى بيتها .. فتعاند وتعاند .. يلاحقها خلسة أنى ذهبت ، إلا أنه في الأخير سيكتشف أنها على علاقة برجل في مدينة مكناس .. يتبعها ذات يوم ، يتصيدها متلبسة وهي داخلة إلى بيت عشيقها .. يأتي بالبوليس …. محضر.. ثم حكم عليها بالسجن سنتين مع التنفيذ لأنها كانت متزوجة زواجا عرفيا وكانت على علاقة بشبكة الهجرة السرية إلى إسبانيا .. ويأخذ قانونيا أبناءه إلى بيته حيث الزوجة الثانية .. فينساها الجميع إلا سعيد الذي كان يتحمل أوزار السفر ليزورها في السجن ويساندها كعادته ..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *