توفيق الباشا (1924-2005)…  ريادة مستمرة رغم الغياب

Views: 1362

سليمان بختي

رائد من رواد الموسيقى العربية في لبنان. ترك تراثاً غنياً في الموسيقى والفن والنتاج الاذاعي والتلفزيوني. ساهم الموسيقي والمايسترو توفيق الباشا (1924-2005) مساهمة فعالة في نهضة الأغنية اللبنانية وأسّس مدرسة موسيقية مهمة تخرّجت على يديه أعداد من الموسيقيين والفنانين. وهو أحد نجوم الإذاعة اللبنانية اللامعين (في عصرها الذهبي) وحارس هيكلها الأمين لعقود.

ولد في بيروت في العام 1924 وفي منزله الوالدي في رأس النبع كان يستمع على الفونوغراف إلى اسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب وسيد درويش وابو العلا محمد ومحمد عثمان وغيرهم. ولكن ما كان يشد انتباه توفيق حقاً هي اسطوانات الموسيقى البحتة المتضمنة البشارف والتقاسيم واللونغات وغيرها. تأثر في طفولته بخاله خليل مكنية (الرسام والموسيقي) الذي دعمه وشجعه على ارتياد طريق المجد الصعب. وبتأثير من خاله أيضاً انتمى باكراً إلى صفوف النهضة القومية الاجتماعية.

 

ذات مرة ترنم توفيق الطفل بمعزوفة موسيقية (بشرف) فدعاه خاله إلى اسماع ضيوفه الترنيمة ففعل بانسجام تام ودقة في الأداء ما أقنع الجميع بضرورة تعليمه الموسيقى خلافاً لإرادة والده الذي كان يريده مهندساً. وفي امسية ثانية سمعه زكي ناصيف صديق العائلة يغني “افرح يا قلبي” فاقترح على خاله ضرورة تعليمه الموسيقى لبيان موهبته. كل شيء كان مهيئاً له ليتوجه نحو العزف والتلحين. ويتذكر شقيقه الفنان الراحل أمين الباشا انه “في طفولته كان يمضي وقته في رصف القناني ثم يعزف عليها بملعقته مستمتعاً بما تصدره من أصوات. وكان ذلك صلته الأولى بالموسيقى. وإضافة إلى ذلك كان يستمتع بالاسطوانات اليابانية والموسيقى الكلاسيكية وكبار الفنانين المصريين”. كما يروي أمين حواراً غريباً مع شقيقه توفيق وهو على فراش المرض، إذ قال توفيق: “هل تعلم يا أمين انني كنت أحلم أن أكون رساماً؟” فردّ أمين: “وكم حلمت أن أكون موسيقياً”.

منذ بدايته أدرك توفيق أن دوره في التأليف الموسيقي فالتحق بالمعهد الموسيقي للجامعة الأميركية في بيروت عازفاً على آلة التشللو ودارساً على يد أستاذ روسي اسمه ألكسي كوغل (من الروس البيض درس على يديه زكي ناصيف والمؤرخ كمال الصليبي وشقيقه سامي) ثم تابع على يد الفرنسي برتراند روبيار دراسة مادة التأليف الموسيقي. اقام توفيق الباشا العديد من الحفلات في مدارس بيروت وجامعاتها وانديتها وكان فيها المعدّ والموزع والمايسترو. في العام 1949 عهدت إليه إدارة القسم الموسيقي في إذاعة القدس. ولكن أهم ما حصل في الإذاعة تعرفه فيها إلى المسز كوك السيدة الأميركية المحبة للشرق وروحانيته والمتصوفين الكبار. وكان همها السعي للتوفيق بين الباليه والموضوعات الدينية، ولديها فكرة إطلاق لوحة عن مولد الرسول. سمعتْ بالصدفة عن عمل غنائي جماعي من الأجواء الصوفية لتوفيق الباشا. سمعتْ وصرخت: “هذا هو الرجل”. تفرغ الباشا لكتابة المشهد على وقع “ولد الهدى” ثم مشهد الإسراء والمعراج وأصابت الفكرة نجاحاً. التحق الباشا بفرقة الباليه للشرق الأوسط والبلاد العربية كمؤلف موسيقي ومايسترو محققاً الفوز. وقدم في فرقة المسز كوك الأعمال التي شكلت مقدمات لعمله الكبير “الانشادية النبوية”. قدمت الفرقة أعمالها على مسارح القاهرة وبغداد والقدس ودمشق وفي مومباي وكلكوتا ونيودلهي.

كان توفيق الباشا في بداية الخمسينات من عصبة الخمسة (مع عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وتوفيق سكر (حلّ محله عبد الغني شعبان لاحقاً) كان يعتبر دائماً أن استاذه الروحي في الموسيقى هو سيد درويش. ويرى أن الفنان لديه مهمتان: الإنتاج وترك اثر إنساني على الإنسان. وهذا اللقب أطلق عليهم بعد خوضهم المعارك ضد التقليديين وكانت الغلبة لهم أي للتجديديين.

في العام 1953 تسلم مسؤولية الإنتاج الموسيقي في إذاعة الشرق الأدنى حتى توقفها في العام 1956 اثر العدوان الثلاثي على مصر. عاد توفيق إلى بيروت عام 1957 والتحق بالاذاعة اللبنانية وتسلم فيها الدائرة الموسيقية بقسميها الشرقي والغربي. وبقي في موقعه 24 عاماً مع انجازات في التجهيز والتنظيم وتجديد الأغنية اللبنانية ورفع مستوى الفن ومعاييره في لبنان، واعداد فرقة موسيقية غدت عمدة المهرجانات اللبنانية وواسطتها.

كان توفيق الباشا أحد المؤسسين لليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك وشارك فيها مؤلفاً موسيقياً وقائداً للأوركسترا في سنوات 1957 و1959 و1964 و1974. كما أسّس في العام 1960 ومع زكي ناصيف ومروان ووديعة جرار وغيرهم وبرعاية عميد دار الصياد سعيد فريحة فرقة الأنوار العالمية وقدمت حفلاتها في كازينو لبنان وقبرص وفيينا وفرانكفورت وفيزبادن وباريس والقاهرة والاسكندرية والكويت وعمان وبعلبك، وساهم مساهمة فعالة في التأليف الموسيقي المقدمات والموسيقى التصويرية وقيادة الأوركسترا. ذات مرة كان في استوكهولهم لحضور مؤتمر موسيقي. أدار المذياع في غرفة الفندق فإذا به يسمع اغنية “آه يا زين” بالعبرية. قرر حين عودته إلى بيروت الانكباب على تأصيل هذا التراث وتوثيقه. وهكذا كان.

 

لحن توفيق الباشا عشرات الأغاني والقصائد لمعظم الشعراء في لبنان والاقطار العربية وللبرامج الغنائية والاذاعية والتلفزيونية وقدم الألحان لكبار المطربين اللبنانيين والعرب بين 1959 و1981 وتناول الأغنية بروح السمفونيات. وكان له اهتمام خاص بالموشحات الأندلسية. كما أعدّ مجموعة من الألحان الشعبية والفولكلورية اللبنانية والعربية نفذها مع الأوركسترا مثل: “عمي يا بياع الورد، قهوة بلدي، يا مايلة عَ الغصون، زوروني كل سنة مرة، وغيرها”. وأصدر اسطوانة بعنوان “فانتازيا شرقية” وهي مجموعة جمل موسيقية من فاصل “اسق العطاش” ثم تبعها بأسطوانة “في رحاب الأندلس” ثم ثالثة بعنوان “البساط السحري” مستوحاة من ألف ليلة وليلة مع اهتمام خالص باللحن دون الكلام. وكذلك عمد إلى توزيع الحان عبد الوهاب في اغانيه المعروفة في سياق مختلف، ولعل اهتمامه بالتأليف الذي يتطلب الأوركسترا والاصوات الكبرى دفعه إلى التعاون مع وديع الصافي ومحمد غازي وسعاد محمد ونجاح سلام ونور الهدى ووداد (زوجته الأولى ووالدة الفنان العالمي عبد الرحمن الباشا) وفدوى عبيد وفايزة أحمد وسميرة توفيق وطروب ونونا الهنا ونجيب السراج ومها الجابري ونصري شمس الدين وسعاد هاشم ونهى هاشم وعايدة شلهوب وغيرهم. أولى توفيق الباشا الموشحات عناية خاصة ويقول: “تنبهت وأنا أدرس الموسيقى الكلاسيكية إلى الموشحات وآفاقها الرحبة فاشتغلت عليها ورحت انقلها من التخت الشرقي إلى الأوركسترا الواسعة التي تضم الآلات الشرقية والغربية. إننا نجد في أعمال سيد درويش وعبد الوهاب والسنباطي قوة فنية وتركيزاً في انشائهم الغنائي والموسيقي يعود إلى ما اكتسبوه حفظاً ودراسة لعدد كبير من الموشحات في مقدماتها الموسيقية وايقاعاتها المركبة”.

اهتمامه بالموشحات دفعه في العام 1954 إلى كتابة “مغناة” شعر ابن خفاجة غنته وداد بالاشتراك مع زكي ناصيف. وفي العام 1955 “مغناة” لابن زيدون من أداء وداد ووديع الصافي. كما أعدّ موشح “ما احتيالي” وغنّته سعاد محمد عام 1972 كما لحن لها أغنية من أجمل ألحانه وهي “أجمل سلام بنظرة واحدة وابتسام”. واستمرّ الباشا يكتب الموشحات فأصدر اسطوانة “موشحات حديثة” وتضمنت 15 موشحاً بينها “حلم الأول” بصوت نجاح سلام “وسكب الورد” و”احبك لست أدري” بصوت نور الهدى “ومن هام بالغيد” لفدوى عبيد و”أيها الساقي” لنازك وغيرها. والحال أن الباشا تفرع منذ 1962 إلى كتابة الألحان لأكثر من 3000 قصيدة من تراث الأدب العربي توزعت في برامج إذاعية وتلفزيونية منذ العصر الجاهلي إلى العصر العباسي ومنها “ليالي الاصفهاني في كتاب الأغاني” ومجال الطرب عند العرب” و”ليالي شهرزاد” و”طروب” و”روائع النغم” و”عباقرة الغناء عند العرب” و”اشعب والكندي” و”جحا”. ولم يكتفِ بذلك بل نظم التدريس في مادة الموشحات في لبنان وجعلها مادة علمية أساسية. في السبعينات لحن توفيق الباشا اغاني مسلسل تلفزيوني “أنا هو وهو أنا” لفهد بلان. وفي الثمانينات لحن شارة مسلسل “الدنيا هيك” الشهير لمحمد شامل والفرقة. ومسلسل “صبح والمنصور” تمثيل نضال الأشقر، ومسلسل “الإرث” تمثيل منى واصف.

وفي عام 1989 قاد اوركسترا فيروز في حفلتها في القاهرة (الصوت والضوء) واستطاع مع فيروز التغلب على المشاكل التقنية التي عصفت بالحفل.

اشتغل توفيق الباشا على الأعمال السمفونية وترك العديد من المؤلفات منها “سمفونية الليل” مستوحاة من شعر سعيد عقل (1953) وسمفونية “فوق البنفسحة”(1969) ونال عليها جائزة المعهد الموسيقي الوطني و”الطريق الأخضر” و”بائع العطر”. سمفونية “بيروت 82” خمسة أجزاء: 4 حزيران، بيروت الإنسان، وقفة عز، الخروج مكن المدينة، واعرباه وسمفونية “السلام” (1985) وعزفتها في العام 1986 الاوركسترا الفلهارومونية لمدينة لياج وبروكسيل وفيرفييه. وألّف كذلك “الثلاثية المقامية لآلة البيانو والأوركسترا الوترية” (2000) وألّف الموسيقى التصويرية لخمسة أفلام تسجيلية طويلة.

استحدث توفيق الباشا الفن الانشادي الروحي العربي وكتب “منهل الإيمان” و”دعاء الحق” وألّف “الانشادية النبوية” شعر أحمد شوقي أوراتوريو (1995) وتبعها انشادية “عظماء الدنيا وعظماء الآخرة” (1996) والنص الأدبي كتابة الدكتور مصطفى محمود عن تراث الشيخ محي الدين ابن عربي “اوراتوريو 2” وقدمتهما اوركسترا القاهرة السمفونية مع كورال اوبرا القاهرة.

وإذا كان الموسيقيون المصريون استمدوا زخم تجربتهم من التراث الديني والمنشدين النبويين والمقرئين، فإن الباشا جعل من الانشادية البنوية، تحفة موسيقية تأليفية عالمية خالصة.

 

أما آخر أعماله السمفونية فكانت “قدموس وأوروبا” من شعر سعيد عقل ولم تعزف كاملة. ويروي محمد كريم في كتابه “كما عرفتهم” (2015) انه في زيارته الأخيرة له في المستشفى في ليلة وفاته أخبره الباشا انه بصدد تدبير تمويل لمسفونية “قدموس وأوروبا” التي يجب أن ترى النور. وفي فجر اليوم التالي رحل عن عالمنا تاركاً إرثاً عظيماً يخشى المرء عليه من الضياع والهلاك”.

ترك الباشا ثلاثة كتب “المختار من الموشحات الأندلسية” تحقيق وتأليف، و”الإيقاع في الموسيقى العربية” (تحقيق ومقاربة)، و”الكمان والارباع الصوتية” (21 دراسة عالية). وأخبرتني ابنته ريما أن ثمة عشرات المقالات والمحاضرات لا تزال في جوارير الظلمة. وان أرشيفه الكبير في عهدة جامعة الكسليك.

صدرت له في العام 1998 مجموعة مختارة من أعماله الموسيقية والغنائية الكاملة على سي دي.

حاز ميدالية باريس (1961) وميدالية الاستحقاق اللبناني (1975) ووسام العلوم والفنون (مصر 1975) ووسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس (1997) وثلاثة أوسمة من جمعية باريس ساسيم، والوسام المذهب من جمعية المقاصد (1989) وجائزة مؤسسة عبد الهادي الدبس (1997) والجائزة التقديرية عن المجمع العربي للموسيقى جامعة الدول العربية (2002) والجائزة التقديرية من مؤتمر الموسيقى العربية، دار الأوبرا – مصر (2002) كما ترأس جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان بين العامين 1969-1986 وبقي الرئيس الفخري للجمعية لسنوات. وكان رئيس اللجنة الوطنية للموسيقى – الاونيسكو من العام 1986 حتى 2000.

لبث توفيق الباشا سدّاً منيعاً تجاه موجات الأغاني الجديدة التي تهدد هوية الأغنية اللبنانية وأصالتها وكتب غير مرة: “موجة الأغاني الجديدة هي هجمة نثرية وليست موجة… بعد سيد درويش توقفت النهضة الموسيقية العربية وتحولت من بعده إلى نهضة صوتية. أما السبب الواحد لهبوط الأغنية فهو ابتعاد الفنان المبدع وجلوسه على الحياد مما أفسح المجال للمتطفلين”.

هذه الصلابة وذلك الجهد اللانهائي لأجل الفن، وهذا الفكر النهضوي الذي يريد للمجتمع والامة ارتقاء وريادة وتقدماً نحييه ونتذكره علماً من اعلامنا ونأسف انه وبعد 15 عاماً على غيابه ليس هناك استديو على اسمه في الإذاعة، ولم يطلق اسمه على قاعة في الكونسرفاتوار، ولم يطلق اسمه على شارع أو مسرح أو مدرسة في بيروت. عام 2016 كرمه المايسترو أندريه الحاج في الأونيسكو بأمسية موسيقية من أعماله ومنها افتتاحية بعلبك 1957 بمرافقة ابنه الفنان العالمي عبد الرحمن الباشا على البيانو. ورغم الغبن اللاحق به إلا انه بقي في نظر الكبار كبيراً. ولبثت مكانته محفوظة. وأذكر ما قاله المايسترو الحاج في مستهل الحفلة “توفيق الباشا مجدد كبير في الموسيقى العربية والغربية ويستحق الكثير من التقدير والاعتبار.

 

قال عنه زكي ناصيف: “ذاكرته الموسيقية كبيرة، وهو سيد الموشحات على الإطلاق”.

وكتب منصور الرحباني: “توفيق الباشا المتمرّس بموسيقى الشرق وتقنية الغرب واحد من النخبة القليلة التي صنعت للبنان شخصية وفرادة. عطاؤه نابع من الأعماق. سكن الحاضر والآتي وصار في تاريخنا قمر للحكايات والسهر”.

وبعد، توفيق الباشا، في كل ما قدمه واعطاه وأبدعه كان يطمح إلى اعلاء شأن التأليف الموسيقي وتأهيل التراث وتأصيله بنسغ الحداثة. وكان همّه أن يرى في ألحانه وألحان غيره التطور الدائم والعظيم للموسيقى العربية.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *