محمد الماغوط (1934-2006)… خسر كل أحلامه إلا الشعر

Views: 665

سليمان بختي

شاعر الغضب والجرأة والتمرّد، وتجربته هي تجربة جيل بأسره وأسره. قضى محمد الماغوط (1934-2006) عمره وهو يوسع نطاق الحرية. كاتب ناقم متمرّد ساخر جريء. جملة معترضة في الثقافة العربية. جاء إلى الشعر من عالم الصفاء والتأمل والقساوة والسخرية. سخرية ممزوجة بالالم وطالعة من الواقع. هو أحد روّاد قصيدة النثر واكثرهم جاذبية. وأعطى لقصيدته بعداً متفرداً في تفاعلها مع الشعر والنثر في أرقى صياغاته. وعالج في شعره المواقف الوطنية والقومية والإنسانية برؤية شعرية شمولية.

ولد في السلمية (1934) (محافظة حماه) ويضيف لمن يسأله: “وما أدراك ما السلمية؟”.

تلقى تعليمه الابتدائي في السلمية ولكن فقره جعله يترك المدرسة باكراً.  يقول: “فيما مضى كان شيخ الحارة يضربني لأحفظ وأتذكر.. وفيما بعد كان الشرطي يضربني لأنسى”. انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي لأن في المركز مدفأة أغرته بالدفء. كتب مرة عن أنطون سعادة انه شاعراً أخطأ الطريق. بدأت موهبته الشعرية بالتفتح فنشر قصيدة “غادة يافا” في مجلة الآداب البيروتية، ونشر قصيدة “لاجئة بين الرمال” في مجلة “الجندي”.

إثر اغتيال عدنان المالكي (1955) لوحق وقبض عليه. من السلمية إلى سجن المزة في دمشق. يقول: “جاءت أمي من السلمية للبحث عني والاطمئنان. ركبت البوسطة إلى دمشق التي لم تزرها في حياتها من قبل، أول مكان زرته وزارته أمي خارج السلمية كان سجن المزة”.

ظلّ يتذكر حتى آخر عمره ما كانت تغنيه له أمه في طفولته: “جمال محملة/ وأجراس بتعنّ/ وأيام المضت عالبال بتعن/ حملت بضاعتي ورحت بيعن/ غريب وما حدا مني اشتري”.

صدمته الأولى كانت السجن. الخوف.  “وبدلاً من أن أرى السماء رأيت الحذاء. رأيت مستقبلي على نعل الشرطي. السجن والسوط كانا معلمي الأول وجامعة العذاب الأبدية التي تخرّجت منها إنساناً معذباً خائفاً إلى الأبد”، يقول.

 

كتب مذكراته داخل السجن على ورق سيكارة البافرا، ورأى من وراء القضبان: المرأة والحرية والأفق.

صدمته الثانية كانت بيروت. الأفق. دخل إلى لبنان هرباً وسيراً على الأقدام. “لم يكن معي أجرة سرفيس لأصل إلى مجلة “شعر” في رأس بيروت”. هناك انضمّ إلى جماعة مجلة “شعر” حيث تعرف إلى الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه بعد أن قدّمه أدونيس. يذكر الشاعر شوقي أبي شقرا في مذكراته أن الماغوط “جاء إلى مجلة شعر ليطير في السرب وزاد إلى السمو سمواً”. في بيروت نشأت بين الماغوط والشاعر العراقي بدر شاكر السياب صداقة حميمة، صداقة التسكّع على ارصفة بيروت. كان يردّد “بين الحمراء وجاندارك مشينا آلاف الاميال”. وفي بيروت تعرّف إلى الشاعرة سنية صالح (شقيقة خالدة سعيد) وغدت زوجته.

يتذكر من أيام مجلة “شعر” وخميسها انه كان وأنسي الحاج الأكثر صمتاً، “وأنا وفؤاد رفقة الأكثر قرباً من البراد، وكنت أستمتع بتجليات مرشدنا الجمالي شوقي أبي شقرا”. نسج محمد الماغوط علاقة خاصة مع بيروت، وكتب غير مرة: “بيروت موجودة في داخلي، بيروت احتضنتني أكثر من أمي. أخذت بيدي عندما كنت شريداً ومفلساً. أحنّ إلى بيروت الخمسينات إلى مقاهيها، إلى شارع الحمرا حيث تعرّفت إلى يوسف الخال وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وفيروز وعاصي ومنصور رحباني. بيروت مثل أم منهكة في الغسيل وإذا بان فخذاها قالوا عنها عاهرة”. عمل في بيروت، في الصحافة، في جريدة “الزمان” و”صباح الخير”. يروي الراحل جوزف نصر (المدير المسؤول في النهار) إن الرئيس كميل شمعون اتصل به ذات صباح سائلاً عن محمد الماغوط ويودّ التعرف إليه  بعد أن قرأ إحدى مقالاته. بدوره اتصل نصر بيوسف الخال للوصول إلى الماغوط وذهبا معاً إلى غرفته المستأجرة في شارع السادات، رأس بيروت. وجداه متعتعاً من سكرة الأمس وقبله. رتب نصر الموعد مع الرئيس بعد ساعتين. ولما استقبلهم الرئيس في القصر الجمهوري نظر إلى الماغوط وقد بدت آثار النعاس على وجهه، وقال: “شايفك نعسان يا محمد”. فأجابه الماغوط: “صحيح. بس انتو نايمين يا فخامة الرئيس”.

 

نشر محمد الماغوط مجموعته الشعرية الأولى “حزن في ضوء القمر” في بيروت، (عن دار مجلة شعر 1959) ثم نشر مجموعته الثانية “غرفة بملايين الجدران” (1960) ولكن بيروت سكنته وهو ابن الحداثة الشعرية البيروتية. ولبثت بيروت في أحلامه تتردَّد. يقول: “أجد نفسي تائهاً وقد أضعت عنوان منزلي وأتجوّل خائفاً أفتش عنه، وغالباً يكون المكان هو بيروت… بيروت قارة في داخلي. أدور في الشوارع. شرطة ورجال امنٍ ورجال دين وكلاب يطاردونني، فاستيقظ مذعوراً، متقطّع الأنفاس”. ولكن ماذا كانت وصيته للبنانيين الذين أحبهم وعاش في كنفهم ردحاً وعنواناً كبيراً لمغامرة إبداعية؟ يقول في حوار مع يوسف بزي (2004): “أقول للبنانيين، أيها اللبنانيون الطائفيون أو العلمانيون، الماديون أو الروحانيون أو النص نص..”.

تمسكوا بشقفة الحرية، تمسكوا بكعب حذاء الحرية الباقي لكم، فهو خشبة خلاصنا. تمسكوا بما بين أيديكم من من اطلال الحرية العربية. الحرية تؤخذ ولا تعطى”.

عاد الماغوط إلى دمشق وترأس تحرير مجلة “الشرطة” وكان أحد المؤسسين لجريدة “تشرين”. احترف كتابة الأدب السياسي الساخر وألّف العديد من المسرحيات المميزة التي ساهمت في تطوير المسرح السياسي في العالم العربي. اصدر “العصفور الأحدب” 1960، و”المهرج” 1960، و”الفرح ليس مهنتي”، دمشق 1970، وكتب في المسرح: “ضيعة تشرين” 1973، “شقائق النعمان” و”غربة” 1976، والشهيرة “كاسك يا وطن” 1979، و”خارج السرب” 1999، وفي السينما كتب سيناريو وحوار: “الحدود” و”التقرير”، وللمسلسلات التلفزيونية كتب: “حكايا الليل” و”وين الغلط”، و”وادي المسك” ومتعاوناً في الكثير منها مع القدير دريد لحام.

 

وكتب رواية “الأرجوحة” 1974، و”سأخون وطني” (مقالات) 1987، و”سياف الزهور” (نصوص) 2001، و”شرق عدن غرب الله” 2005، و”البدوي الأحمر” 2006 و”اغتصاب كان واخواتها” 2002.

كانت فترة الثمانينات قاسية عليه وأصعب ضربة تلقاها كانت وفاة زوجته سنية (1985) فكتب: “كل النساء من بعدها نجوم تمرّ وتنطفئ وهي وحدها السماء”. وترك غيابها أثره على صحته وأعماله وكتاباته.

ظلّ محمد الماغوط حالماً يحب الحلم ولو خسر كل احلامه. هو من الذين كسروا المسافة بين ما هو شعر ولا شعر. وظلّ جريئاً “ما من قوة في العالم ترغمني على محبة ما لا أحب وكراهية ما لا أكره  ما دام هناك تبغ وشوارع وثقاب”. همجيته كانت أرقّ من الوردة. تحرّر من إيقاع التاريخ ليعانق حلم الحرية في المستقبل. ومكانته المستحقة ستبقى ثابتة في تاريخ الشعر العربي الحديث مهما طال الزمن. فقد ولج إلى خبايا النفس التوّاقة إلى الحرية. واستطاع تدجين الكلمات والمفردات ما بين الحياة والقصيدة. في قصيدته هو بطل وشاهد وضحية وجلاد وساخر وخارج من التاريخ واللغة والوحل وضوء القمر والحزن والحنين.

“كل ما أريده من مدينتي هو أرصفتها القديمة”، يقول.

 

في ظهيرة يوم الاثنين 3 نيسان 2006 رحل محمد الماغوط بعد صراع مع المرض لأكثر من عقد. توقّف قلبه عن الخفقان مثلما تقف النقطة في آخر السطر. كتب شوقي أبي شقرا في رثائه: “وأنت في الشعر العربي الحديث وفي النثر أصدق عبارة وأوفر تجربة إذ وصلت إلى الذهن العربي الشامل وفي عجلة بلغت مرتبة النجاح والتجاوب بكمال وأبّهة مع مسرحك وجذبت الجماهير وأيقظت أحلام التغيير”.

ولكن الماغوط يبقى الماغوط إزاء أي حدث. فقد سئل في آذار 2001 في “ملحق النهار”: “ماذا تريد أن يكتبوا على شاهدة قبرك؟ أجاب: “شخّوا على قبري”.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *