جان كميد

Views: 869

غاب في 31 تموز 2020 الصحافي والأديب جان كميد صاحب تاريخ عريق في عالم الكلمة الراقية والأصيلة وحضور فاعل في المجال الإعلامي على مدى سنوات طويلة. في مناسبة غيابه تنشر Aleph-Lam كلمة من القلب ألقاها الشاعر والأديب سهيل مطر في حفل تكريم جان كميد في جامعة الشرق الأوسط – السبتيه (11-5- 2016).

 

سهيل مطر

في الطريق إلى هنا… انتخابات، صور، شعارات… وكلهم يعملون لمصلحة هذا الشعب، ولكرامة هذا الوطن، ولمستقبل الأجيال الجديدة.

جان لا يترشّح،  لا يرفع صوره، لا يدبّج شعارات، ولا يعمل “لمصلحة” هذا الوطن، فلماذا تكرّمونه، يا حضرة رئيس الجامعة؟

أسأله بصدق:

جان: لماذا لا تترشّح؟

يضحك بخفر… ويصمت.

أجل أيها الأصدقاء، لهم لبنانهم، ولنا لبناننا. يا ليتنا نلتقي، لبنانهم ولبناننا، وسنلتقي.

أمّا الليلة، فالحديث، بعضه محبة، بعضه صلاة، وبعضه الصغير الصغير، مديح وتقدير. فالمكرّم يحمل الليلة في وجدانه، بعض قداسات الطيبين الذين لا يحكى عنهم إلا بالصلوات وباقات الورد وقُبلُ المحبّة.

وقف سعيد عقل أمام فؤاد افرام البستاني- اللهمّ أبعد عني وعن جان، المصيرين معًا- وقف قائلا:

إن رحت أطريه، يغضي رأسه دعةً         كرأس صنين، يهوي، إن هوى، صعدا

هذا هو جان كميد: تواضع، وداعة، وطفولة، ما لنا وللعمر، وأرجوك، أرجوك، يا أخي جان: لا تتردّد: أضعتُهُ العمر. ولا تغنّي: أنا من ضيّع في الأوهام عمرَه.  ومن قال إن العمر سنوات تمضي، زهير سئم تكاليف الحياة ولا يزال حيًّا بعد ألف وخمسماية سنة. العمر، يا رجل، هو عمارة، أنت عمّرتها، بضوء العينين، بعرق الجبين، بحبر من دم القلب والدموع، ووزّعتها قرابين على الناس، جرائد، مجلات، كتبًا، مقالات، خطبًا، قصائد، وطوبى للجائعين إلى المعرفة، فإن لهم من بيادر جان كميد، سنابل محبّة وعطاء، ولا ننسى أنَّ:

ملأى السنابل تنحني بتواضع        والفارغات رؤوسهن شوامخ

الله يا أخي جان، كم صرنا نفتقد إلى زهرة بنفسج واحدة، وإلى بعض عطرها.

بصدق، يا جان أقول:

كل لغة غير لغة الحبّ لا تليق بك، وأنت عاشق الكلمة ولنوال حقّ الغيرة، ولتتغاوَ رصاصة القلم على حدّ سيف وزارة الدفاع.

أيها التقي النقي الوفي، كل لغة غير الصلاة لا تليق بك، وأنت في دعاة: اعطنا خبزنا كفاف يومنا.

أيها المعلّم المثقف الباحث، كل لغة غير الماء والندى وصفاء الدم والدمع، لا تستحق أن تكون لك حبرًا.

أعطيت من قلبك ستين سنة ورْد… فإن سألتك: أدِّ الحساب، قرأت في عينيك، نبل الفقراء وكرامة المثقفين.

متعَب أنت، حقًا، ومُتعِبٌ أيضًا، كأنك ضمير في زمن الإهمال والتفاهة والسقوط. عشتَ ضوءًا يشعّ، ببساطة ونقاوة، وما كنت يومًا سهمًا ناريًّا، يلعلع وينطفئ.

بالله عليك، وأنا أحبّك، أريد منك أمثولة خاصة، فأنت فوق كل العناوين، عنوان واحد: رجل راقٍ، رائق ورقيق، إنسان على نبل وقيم وطفولة، حتى كأنك، في هذا الزمن الصعب، لا تغضب، لا تتذمّر، لا تسبّ. علّمني بالله عليك كيف أمتنع عن السباب.

وعلمني أكثر، وأنا اعترف بخطاياي، كيف أقول:

فالحسنُ يُغني بانشراح العين       عن قطف الثمر

وأنا لا أزال جائعًا إلى تلك التفاحة.

وصلاتي أن تبقى، يا جان، أنت أنت، ولا تقاعد، ولا شيخوخة، ولا نهايات  قصائد، وصلاتي أكثر أن تبقى نوال الزوجة الوفية وأن تبقى روزي وجانين وندين وشيرين، الخمس الحلوات والأحفاد التسعة، روعة العطاء والحياة، وأن يبقى بيتك بيت الحب والكلمة إلى أبد الآبدين.

أما انتم أيها الأصدقاء

إن لمحتم، الليلة، رجلا يخرج من هذه القاعة، مبللا بالحنان والحنين، متوّجًا بالشعر والحب وضباب السنين، لا تزعجوه بتهنئة وكلام، بل ابحثوا في جيوبه، تجدون أوراقًا وحكايات ولا شيء آخر، وابحثوا في ذاكرته، تجدون أطيافًا لبنانية عزيزة، وابحثوا في قلبه، تجدون، في الزوايا، بقايا وشظايا حب ووجع، حافظوا عليه بالأهداب، حصنوه ضد كل أهل الشرّ وصلوا معه ومعنا:

يا رب، طوبى لأنقياء القلوب، فإن لهم ملكوت السماوات. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *