في التّجريب الصّحفيّ(4)

Views: 847

محمّد خريّف*

ما إن تسلمت نسخة شهادة “الباكالوريا” حتى ساورتني فكرة التسجيل في معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس وفي رصيدي أوهام كثر منها أن أصير بعد أربع سنوات صحفيا معترفا به،و-أنا  خوكم حسونة ولد بلنزة االبدري- ولّيت انفيّش بورقة طائشة كي الفرّوج الدّنماركي، واقعا تحت تأثير صدمة النجاح وكأنّي جبت الصّيد من وذنه،لكن وقبل رمي صنارة في بركة التّسجيل بمعهد الصحافة وشروطه صعبة على ما يبدو وجدت  في نصييحة مدير ذلك المعهد وهو أستاذ بكلية الآداب شعبة اللغة والآداب العربية ما يحفزني غلى المضيّ في طريق تحقيق فانتزم المراهقة بدعوى أن الدراسة في كلية الآداب واضحة ومستقبل شهائدها مضمون و لها أن تمكنني من أن أكون  أستاذا وصحفيا في نفس الوقت- والحال أن الشغل في ميدان  الصحافة قد لايكون آمنا ولاهو محمود المغبة بالنّسبة  إلى أمثالي و”اللسان المنتن يستاهل السواك الحار”.

هكذا طلّقت عن مضض هواجس الشغف بالصّحافة عشيقة الصبا والشباب ولمّا يفارق جوانحي بلل من عرق الهيام بها إليها وان كانت تبدو للبعض سخافة، لاسيّما  -وأنا أسمع دروس أساتيذ الكلية من الاكادميين وهم من خريجي السوربون المرموقين وطلبتهم ما لايحبّب في الصحافة وأهلها، وقد لاجظت  عليهم من علامات الاستهتار والنفور بل التعريض بالصحافة والصحافيين وأساليبهم المبتذلة المهلهلة ما يدفع إلى الرّيبة و والشكّ في ما كنت أعتقده صوابا، ممّا يّقوّي فيّ الاعتقاد أن الممارسة الصحفيّة في وضعها أنذاك لا تستجيب لصرامة الدّراسة الجامعية الأكاديميّة واكراهات الفصاحة اللغوية المتمكنة بأوهام الترسيخ المدرسيّ وسننه المجحفة ينقلها كابر عن كابر، يرثها المريدون عن شيوخهم سمعا وطاعة ولاسيّما في  دروس مناظرة  التّبريز وفي شعبة العربية على وجه التخصيص وهي شهادة علمية معتبرة “لايظفر بها إلا القلة النادرة ممّن برّز في اللغتين العربية والفرنسيّة” وكان أهلا للتّدريس بلا منازع، هذا بالرغم من أن من الجامعيين من يمارس الصحافة بشكل أو بآخر عملا بمقولة لكل “مقام مقال”.

غير أن وجودي في جو  كلية الآداب الصارم لم يقتل فيّ دبيب هذه الدّودة النكراء إذ لم يستأصلها مشرط التشذيب والتهذيب اللغوي   بالكامل فظلت  ميّتةحيّة تغريني بالانسياب في شعاب متاهاتها  وتنفرني بين الفينة من رداءة الرّوتين المدرسيّ ،وقد انفتحت لي في الطيش الصحفي سبل جديدة تمكنني من ممارسة الهواية المدمّرة من خلال المساهمة في إصدار مجلات منها “الدليل العربي” و”الحدث” وكان ذلك في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وهي من المجلات التي لم تعمّر طويلا فسرعان ما اندثرت رغم الوعود والعقود المغرية وكلام الليل مدهون بالزبدة في مثل هذه الصقفات، هذا لم يصمد من العناوين إلا البعض مثل جريدة الشعب والصباح ولابريس و لعل النشرة الخاصة للشعب الصادرة ليلة الخميس26 جانفي  1978تكفي للتدليل على مساهمة الصحافة النضالية القطاعية في الحراك النقابي والسياسي فالاجتماعي بتونس خلال السبعينات.. 

مع جماعة الصوت الجديد أمام كلية الآداب والعلوم الانسانية بتونس في السبعينات من القرن الماضي

          

 *******

علاقتي بالتجريب الصحفي ،إذن، لم تكن بمقتصرة على الصّحافة المكتوبة فقد جرّبت حظي ولم يكن سعيدا  مع الإذاعة والتلفزة ،إذ كثيرا ماكنتأحلم منذ الصبا وانفتاح أذنيّ على سماع الراديو في شكله القديم أ أن أكون مذيعا معروفا مثل “منير شمّاء” أو “عادل يوسف” أو”حمادي الجزيري” وغيرهم…

لكن هي أضغاث أحلام توّجت بيقظة أحلام الفشل الذريع خلال القيام بمحاولة بالتقديم التلفزيّ ضمن “برنامج لاختيار نجوم الغد في الغناء” هي محاولة طيش إعلاميّ آخر فاشلة  لم تزدني إلا تعلقا بالدراسة الاكادمية رغم اكراهاتها العذبة فكان مني أن حوّلت  الوجهة من شارع الحرية حيث التعويل على الصدفة والأكتاف إلى شارع 9 أفريل حيت الصّبر والبذل والتعاون المثمر مع الزملاء الطلبة من كامل أنحاء البلاد وأهمهم أصدقاء “الصوت الجديد ” و”جهدك ياعلاف” هناك على شفا حفرة الملاسين عدلت نسبيّا عن التعلق بالسّفاسف التي لم أجْنِ منها ما يجنيه غيري بأساليب ودواليب أجهلها ولا أقدر على فهمها من نعيم الرفاه والتمتع بسلطان الشهرة ونفوذ المركز ومارضاء الله الابرضاء السلطان والحاشية الميامين باللّسيّن الحلو يغزل الحرير وذلك رأس مال” صحافة البندير” ولساني “خليني ساكتا” -أقولها في صمتي والعاجز مثلي قد يستبدّ وهما، دعني من خرافة المحاكاة وهي عندي لا ساخرة ولا جادّة، فلأجرّب طيش الكتابة الأدبيّة وبابها إلى السلامة العلامة الغامضة وأساليبها  المضمرة طمعا في مواصلة الاحتضار المنعش في المجلات الأدبيّة في الداخل والخارج فمن “دراسات عربيّة “ف”كتابات معاصرة” و”القدس العربي(سابقا).

وهكذا كان التحوّل من الاكتفاء بلقطة صحفيّة عابرة عارية من كل مجازات التورية والتلميح إلى دراسة مطولة في مجلة ثقافية أو في كتاب نقديّ أو كتاب روائيّ هجين منذ 1994″” تصوّب إليه بنادق “طلق الريح” من حملة “القرابيلة” على بساط صحف  “العهد الجديد” “وصانعه ” حامي حمى الوطن والدّين” وقد اُختير لقيادتها أمهر البصّاصين(والبصّاص عندنا من يطلق الريح من اكله الحمصالمنفّخ والفول المدمّس”-  وقد نسمع طحنا ولا نرى طحينا- وفجعان الذيب لا قتله – وتلك صنعة الدّراويش و عربي أعطاه الباي حصانا  يولول في المحفل الصحفي  حيث يصير الناقد مثلي منقودا بل منبوذا -و بفضل التناسخ والاستنساخ يولد في جريدة  النفخ والانتفاخ جيل من العصاميين حاشا أن يكونوا أميين ولا متزلّفين –هم فقط من جماعة “أحباب الله” أولاد سيدي طلوا فردا سلوا أقلامهم لمّاعة يحتلون الساحة الصحفية” بالفص والضبوط” وصوت  البونية شرقاع يطيح الجمل في 9 افريل ومنوبة يفتكون الزعامة بالحوز والتصرف والمسألة مرهونة في “ضربات” لاهدف لها ولا غاية سوي تشليك الكفاءات العلمية من الاكادميين والحيلة مكشوفة سبيلها محو “العلامة المسجلة بالعلامة الحرباء ” وتبدأ  ب “اطعم الفم ..” باستمالة الفريسة  واستدراجها للإشراف على الصفحات الثقافية في جرائد السلطة ، شعارهم “الاسم يدور” وتنتهي بالإقالة عملا بمقولة ” طالت الشيخوخة” وهكذا يبيعون القرد و”يضحكون على شاريه” هؤلاء صاروا يصولون ويجولون يعرضون في تعليقاتهم بالأصوات المناوئة ولا وشاية بها للنظام (والبصّاص هنا قوّاد كما لايقال بالشرقي) المهم  هم ينعمون بالجوائز والأوسمة وهل هو “العصر الذهبي للثقافة”؟

(يتبع) 

***

(*) كاتب من تونس 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *