دنيا يونس ربيعُها بقيَ زاهِراً

Views: 762

 الدكتور جورج شبلي

 

في الذّخائرِ الباقيةِ، أصواتٌ صافيةُ الفصاحةِ، تَجري في ذاكرةِ الزّمن، بحُسنِ ديباجتِها، مَجرى الماءِ في العُود. هي إبداعٌ صادقُ الأحاسيسِ، يتوهّجُ بشُحناتِ العواطف، لم يتكلَّفْ تحصيلاً متدرِّجاً كما الإنتقالُ من التّهجئةِ الى القراءةِ بِطلاقة، لأنه ينتسبُ، في الأصل، الى الموهبة. وفي مسيرةِ الشُّطور، تَغفو السّنونُ بِصَمت، لكنّها تتنبَّهُ، دوماً، على بصمةٍ تحفرُ في صدرِ الإنشادِ بصمةً لا تُمَّحى.

دنيا يونس، وارثةُ الإِسرافِ في الإنتماءِ الى الأُصول، اعتلَت المراكبَ الثِّقالَ في صِيَغِ الغناء، وهي بعدُ صغيرة، فاجتازَت عتبةَ النّورِ في المَغنى، وحوَّلتهُ مَعشوقَ السَّمع. لقد نُشِّئَت على جلاءِ الموهبة، فلم تكن هذه، معها، ليلاً عُرياناً، أو دياراً ممزَّقة،بل قارورةَ طِيبٍ من دونِ تَبَرُّجات. ومَرَدُّ ذلك الى عِشرةٍ مع الكِبار، فصَوتُها ينتمي الى عصرِ وديع الصّافي وزكي ناصيف اللَّذَين انتهزا، معها، فرصةَ الإنتظامِ بنشوةِ الطَّرب، لتؤدِّيَ بعضاً من روائعِهما الخالدة.

الأداءُ، مع دنيا، جَمالٌ يُقبِّلُ جَمالاً، كما يُقبِّلُ الحبُّ خلجاتِ القلوب. ومذهبُها أنّه مهما كان خزّانُ الجَمالِ في الغناءِ سَخِيّاً، لا يمكنُ اعتبارُ ذلك إسرافاً.من هنا، ليس يكبرُ على ” دنيا ” أن تكونَ مُنشدةً بارعةً، فأداؤُها لم يكنْ، أبداً، إلّا وُقوفاً.ولعلَّ هذا الودَّ عن الإندماجِ المُبكِرِ مع الإجادة، يعودُ الى عِلمِها الدَّقيقِ بالوقفاتِ والفواصلِ التابعةِ لجَدولِ الغناء، والى صوتِها الذي، وإنْ لم يخلَعْ زيَّه التُراثيّ، وهذا ليس عَيباً، لكنّها رصَّعتهُ بمُلحَقاتٍ غيرِ منكورة.

دنيا يونس وترٌ ناطِقٌ أُضيفَ الى قيثارةِ المغنى، جمعَت مقدرتُه اللّاقِطةُ لَفتاتِ الأنغامِ لتصبَّها في  جسمٍ رشيقٍ يخفقُ الفنُّ في مَيَلانِهِ، يهزُّ الإحساساتِ، ويؤثِّرُ، عميقاً، في المشاعر. ومن حواضرِ صوتِها، الموّالُ والمَغنى الشَّعبيّ، حيثُ يضبطُ الإيقاعُ نفسَه، وتنتظمُ المقاماتُ التي تحتفظُ بخطِّها من دونِ تَحوير، وكأنّ الأمانةَ في عُهدةِ ساحر.

لم يكن هاجسُ “دنيا” التّزيينَ، فلم تُسكِنْ غناءَها في أيِّ قالب، أو تَنسجْه على شكلِ أيِّ نموذج، فحضارةُ الطَّبعيّةِ، معها، أَفتَنُ من التَّزويق، والمألوفُ أَخصَبُ من الصّناعة، والسَّهلُ أَفعَلُ من المُعَقَّد. لقد أخذَتِ الغناءَ بيَدِهِ، وطافَت بهِ على العِزّ، فانتسبَت الى وحدةِ الإبداعِ المُطلَق، حيثُ يستوي الفَرقُ بين الإنشادِ والضَّجيج، وذلك، ليسَ بفِعلِ الأعجوبة، بل بِما تطَعَّمَت “دنيا” من موهبةٍ رصَّعَت يواقيتَ مغناها.

الجملةُ الأدائيةُ، مع “دنيا”، لها وَقعٌ لَحنيٌّ، وطَعمٌ صَوتيٌّ ممَيَّز، لذلك، لم يكنِ المَغنى معها نَمَطاً بِقَدرِ ما كان أَثراً، أي ما يُحدثُهُ في النّفسِ والذَّوقِ من تَعزيمٍ يَبلغُ، معه، الإحساسُ العاطفيُّ ذروةً لا تقبلُ المقارنة. لقد تدرَّبَت على صُحبةِ الشّكلِ واللّون، بين الرّخامةِ والتّخفيف، الى التدرُّجِ في المَذهبِ المَقاميِّ حتى القَفل، ما حازَ على النّفوذِ الأكبرِ من الإِدهاش، كيف لا، أَلَم تُجالِسْ في “طواحينِ الليل” مَن يفرضُ سيادتَه، وكأنّ بينهما تَحَدِّياً؟

دنيا يونس الوضّاحةُ الوَجهِ والمُوَفَّقةُ الذَّوق، معها نستمعُ الى تَنَفُّسِ الجَمال، ومؤَلّفاتِ السّواقي، في رقّةٍ نقيّةٍ جعلَت أغانيها سَلِسَةَ المُؤَدّى. فاللَّحنُ المُدَلَّلُ بصَوتِها، باتَ آهاً للفرح، وثّاباً أَعيَشَ من أن يجمدَ في جملة، وكأنّ به مَيلاً الى الأرستقراطيّة، من هنا، كانت “دنيا” شَرِهَةً الى الغِناءِ، كفَنّ، عاشَتْهُ ولم تَعِشْ منه. 

“دنيا”، أنا متشوِّقٌ الى معرفةِ ما إذا كان جارُكِ صاحبَ ذَوقٍ ولياقة، وأجابَ دعوتَكِ :”وينَك يا جار، شَرِّفنا عالصبحيّة”…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *