قَوْسُ قُزَح

Views: 353

   سلمان زين الدين (*)

   منذُ نيّفٍ وربعِ قرن، كانَ لي شَرَفُ التَّعرّفِ إلى محسن جواد، ففي آذار 1992، باشرنا العمل معًا في التفتيش التربوي، بعد النجاح في مباراة مخصّصة لتعيين مفتشين تربويين، أجراها مجلس الخدمة المدنية في العام 1992، وتمخّضت عن فوز أربعةٍ وعشرين مرشَّحًا من مئات المرشّحين الذين خاضوا المباراة. وكان أن شكّلت المفتشية العامة التربوية، برئاسة المرحوم الدكتور محمد كاظم مكّي، إطارًا للتفاعل بين الناجحين، الآتين من مختلف المناطق اللبنانية الخارجة من حرب أهلية، حوّلتها إلى جزر متعدّدة في أرخبيل الوطن. وكان على كلٍّ منّا أن يفتّش عمّا ينقصه في الآخر المختلف، وأن يكتمل به ويتكامل معه، وأن نُسهم جميعًا في عملية تحويل الأرخبيل، بجزره المتعدّدة، إلى جزيرة واحدة.

    لذلك، رحنا نجوب الوطن من أقصاه إلى أقصاه، تحدونا حماسةٌ منقطعة النظير لإصلاح ما أفسد دهر التربية، وكثيرًا ما  حالفنا الحظ في ذلك، وقليلاً ما عدنا من الغنيمة بالإياب. واستطعنا بتوجيهات الدكتور مكّي، رحمَهُ الله، وتَفانينا في العمل، أن نصنع زمنًا جميلاً، تفيّأنا ظلاله الوارفة، وحاولنا تغيير المنكر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بعد غيابٍ قسريٍّ فرضته أسبابٌ ذاتية وموضوعية، لا يتّسع المقام  لذكرها. وكان محسن جواد في طليعة صانعي هذا الزمن، وفي مقدّمة العاملين على تغيير المنكر التربوي، بيده ولسانه وقلبه، على حدّ تعبير الحديث النبويّ الشريف. ولم يكن ليستخدم سيفه حيث تكفيه يده، ولا ليستخدم يده حيث يكفيه لسانه. وكان يضع السيف في موضع السيف والندى في موضع الندى، فلا يُضرّ بالعلى، على حدّ تعبير جدّنا الشعري أبي الطيّب المتنبّي.

   لم تكن العلاقة التي تربطني بمحسن جواد مجرّد زمالة عابرة، تنتهي بتقاعد أحدنا من العمل أو من الحياة، بل تعدّت ذلك إلى صّداقة صادقة، غذّتها لواعج دفينة واهتمامات مشتركة وتطلّعات واحدة،  وأَورى زنادها عشقٌ مقيمٌ للغة العربية، فراحت تُمْرِعُ وتُفْرِعُ على الزمن، وتمخّضت عن أُكُلٍ مؤاتية وقطوفٍ دانية. وإذا كان من النادر أن تجتمع الزمالة والصداقة في شخص واحد، فإنّ محسن جواد جمع في شخصه بين العلاقتين، وكان فريدَ زمنِهِ ونسيجَ وحدِهِ في كلٍّ منهما.

– فمحسن الزميل يحفظ  زميله في غيبته وحضوره، ويقوم بواجبه في حِلِّه وترحاله، ما جعله يحظى باحترام الزملاء ومحبّتهم، من جهة، وجعلهم يحفظون له: أناقة الحضور، وخفّة الظل، وصواب الرأي، وحسن التنظيم، وإيجابية التفكير، ونظافة التعبير، من جهة ثانية. وكم كانت له في هذا الميدان صولاتٌ وجولات، ما نبا فيها سيفه، ولا كبا جواده، ولا طاش سهمه، ولا خبا جمره! وكم من مرّة شارك في تكريمٍ أو تهنئة أو تعزية ممّا يتعلّق بهذا الزميل أو ذاك! ولم يكن بعد المكان أو ضيق الزمان ليحول دون تلك المشاركة.  

– ومحسن الصديق “لانَ عودُهُ وكَثُرَت أغصانُهُ”، على حدّ تعبير إمام البلغاء وسيّد الفصحاء، الإمام علي بن أبي طالب. وكم ظلّلتني صداقته الحانية، يترجمها إلى وقائع ملموسة، فيتجشّم عناء الانتقال من النبطية إلى بيروت ليشاركني حفلة تكريم أو توقيع كتاب، ويُفاجئني بحضوره الأنيق في نشاطٍ ثقافيٍّ، أشارك به، في هذه المنطقة أو تلك. فالصداقة، في عُرْفه، ليست كلامًا معسولاً بل هي فعلُ إيمانٍ وتجربةُ مَعيشة. وهذه الترجمة لم تكن حكرًا علي، بل تنسحب على جميع الذين أظلَّتهم صداقته الوارفة.

   ومحسن لا يمكن اختزاله في بُعديِ الزميل والصديق وحسب. فهو المفتّش، والمربّي، والمشرف، والأديب، والباحث، والمؤلّف، والناشط الثقافي. وهذه الألوان المختلفة الجميلة تتناغم في قوس قُزَحٍ واحد اسمه محسن جواد. وإذا كان المقام لا يتّسع للتفصيل في كلٍّ منها، فهو لن يضيق بالإجمال في  أحدها، عَنَيْتُ بذلك محسن المؤلّف.

   في العام 1997، ومع صدور مناهج التعليم العام الجديدة بموجب المرسوم 10227 تاريخ 8 / 5 / 1997، والعكوف على تأليف الكتب المدرسية في المركز التربوي للبحوث والإنماء، أُسْنِدَتْ إلى المفتش العام التربوي الأسبق المرحوم الدكتور محمد كاظم مكّي مهمّة المنسّق العام لتأليف كتاب “التربية الوطنية والتنشئة المدنية”، أحد كتابين بالإضافة إلى كتاب التاريخ، نصّ اتفاق الطائف على توحيدهما، فاختار لهذا الغرض عددًا من المفتشين التربويين إلى جانب نخبة من الأكاديميين والمختصّين، وكنت ومحسن وزملاء آخرين من المشاركين في هذه المهمّة الوطنية، وانخرطنا في ورشة عملٍ جميلة، تلاقحت فيها العقول والأفكار، وتناغمت الميول والاتجاهات، وكان الدكتور مكّي ضابط الإيقاع في هذه الورشة، واستطاع بحنكته وحكمته أن يؤلّف بين المتناقضات، وأن يوفّق بين المختلفات. وكان أن تمخّض عن تلك الورشة، لأوّل مرة في تاريخ لبنان، كتابٌ موحّد في مادة “التربية الوطنية والتنشئة المدنية”، فيما لا يزال مشروع توحيد كتاب التاريخ متعثّرًا وغارقًا في وحول التجاذبات السياسية.

   واليوم، وبعد قرابة ربع قرنٍ على تلك التجربة الجميلة، لعلّي لا أعدو الحقيقة إذا ما قلت  إنّه لولا الدور الكبير للتفتيش التربوي، مفتّشًا عامًّا ومفتشين، لما أبصر كتاب التربية النور، ولكان مصيره لا يختلف عن مصير كتاب التاريخ، دون أن يعني ذلك غمط  الآخرين حقّهم أو الانتقاص من دورهم. وحسبي ومحسن والزملاء الآخرين أنّنا كنّا رأس حربةٍ في هذا المشروع. هي شهادةٌ للتاريخ التربوي في لبنان تقضي الأمانة أن نشهد بها، والشهادة أمانة، على حد تعبير مأثوراتنا الشعبية.

  وبعد، الكلام في محسن جواد لا تختصره شهادة، ولا تختزله عجالةٌ، غير أنّ الساقية تومئ إلى النهر، والوردة تحيل إلى الحديقة، والقليل قد يغني عن الكثير. 

   محسن جواد، اشتقنا لك!     

بيروت، في 8 / 8 / 2020

*** 

 

   * شاعر وناقد ومفتّش تربوي                                 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *