بيروت الحمراء الوجنتين

Views: 475

شوقي أبي شقرا

إليكم حبي وشكري وكلاهما وردتان من تلك الحديقة، حديقة السالف والغابر من بحبوحة السنين ومن الصحبة. صحبة الحياة الغزالة. وهي التي تركض على الحصى وعلى التراب وعلى جلد التمساح وخرطومه القاحل. والتي تهرب لتنجو من الأنياب حيث الاقسى من القساوة وحيث هي تغيب في غيبوبة الدنيا. وهكذا أنا الضرورة وكنت اهوى وأنشد حتى الهوى وما يحيط بالنعمة من الاشواك ومن القندول لأنني ابن الضيعة ولأنني التلميذ القادم من سائر الأحوال.

ولا جدل ولا فلسفة ولا فيلسوف وأدعوكم إلى الرضى إلى شجرة التوت تلك المحبرة وتلك النكهة على لسان اللص الظريف وعلى الطبق من القش وعلى البساط هو وعلى الحصيرة وحيث اللون والرسوم والزينة.

وتفضلوا وقرفصوا ولكم على صنيعكم مكافأة الوليمة، وكيس من اللذائذ وجربندية من الثمار المختبئة، وانتم في الرحلة بدأت إلى الراحة الكاملة الأسنان وحيث الغلبة أن يكون المرء وان يكون الفلاح وأن أكون أنا والجسد أن يتمادى بليونة، وكمشة وأحاسيس تكاد تكون فلسفية، وكذلك أن تنفلش لتكون وجودية وفي عافية هي أيضاً تشعّ وربما هي القنديل وما بنا حاجة إلى أكثر من الآفاوية ومن أسوارة السعادة وغبطة الساعات وهي تمرّ وتمرّ ولا تنسى صرماية المدخل ولا قلشين الفتاة أو هي العصفورة نسيت ولا تنسى أنها حافية وان الطريق من الأطرف ومن الظرافة التامة البلاغة.

ولا نقول ولا أحد يقول “هات” أو ما يطابق الأمر والعادة بل نحن معاً والوردتان معاً خنصر يجاور خنصراً وهنا فلان في راحة ويعد العدد وان أحد السادة يتعذّب أو يعربش إلى المقصورة أو يتذكر أن الاغنية هنا، اغنية الأصابع وكيف هناك واحد من الأولاد ينتظر أن تصل الحكاية إلى اللعب والى أن ينفجر شيء من اللعبة ومن سيرة الغنج ومن أن الضحكة تسير وتفقع كالتينة أو كالبلون.

وهي العصفورة نسألها عبر الرغيف المأخوذ إلى سدّة الركبة، أن لا تقع في سفر الغلطة، وأن الرغيف نفسه ينصاع ويسجد لها كاملاً وخصباً. وهناك دور اللقمة لترقص وبها الغنج والذوبان وكلها في القاموس الريفي، قاموس الشهادة أننا أغنياء وان بلادنا وان طباعنا كلتيهما عميقتان في وادي القلب والحشاشة.

وفي وادي البطن ومصطبة الذوق مصطبة ستي وعمتي وخالتي وجدتي الأخرى المضافة إلى الجذوع. واقتربوا يا جميع الناس من فحيح الخزامى ومن صدري ولهاثي ومن النحن، أي نحن الجلوس وشتى الوقفات والانحناءات. وخذوا كبكوب الذكريات معكم وتلاعبوا بالكلام أو بالتبغ أو بالورقة الناعمة القوام. وبدلاً من الكوسا تمتلئ السيكارة وترتعش في المدى وتصدر السطور من الجريدة، من الدخان والأفكار وهكذا لا خطاب ولا قصائد ولا مدائح بل أنه لبنان المعتق والذي يدوم ويدوم إلا هنيهات من ذاك الأنس وتلك المتعة.

هذا اللبنان هو واحتي، هو الوحي والايحاءات، هو الذي نزل وينزل نزول الندى أو نزول شراريب الشتاء. وأنا لست المؤرخ ولست أستاذ المدرسة، بل أنا من تعلمون. ولست إلا المهلهل وألا ذاك المقص، ألا ذاك الفيغارو المؤنس والأنيس أو ذاك الشحرور يشتغل ويحمل الفصاحة من ذلك الدكان.

أو الذي كاد أن يقطف القمر في ليلة الغناء والمشي والسهر على حافة الأشياء، حافة ذاك الفنان العالي المقام والسامي الاحترام، وهو الشاب والختيار معاً ولا ينضب ينبوعه ولو تدحرج من فضائه على الناعمة والاجاصة، ولو راح يتغندر هو والصمت والغصن الغافي ولا أحد سواه والناطور ليس هنا ليصرخ صراخ الأنشودة ولا يناقض سيرة الفيزياء. ونحن ندعوه أن يكمل الجملة وهي على رأس لسانه. أما طعمه ولونه فهما من العلوم في جامعة المجرّة.

وذات يوم سندعوه أن يحطّ وان يتعلم دربة الحمام وان يهبط بجزمته في مطارحنا وفي منازلنا، وان يتنازل عن عرشه هنيهات وان ينبطح على كل ثواب وعقاب وعلى كل إثم في ثياب حبّة حمص أو حبة عدس وعلى كل ما يغزل المغزل والطمأنينة ودولاب الصوف أو راحة الحلقوم.

وهكذا يكون أولاً يكون الدخول إلى الاغنية التي هي ستي وعاطفتي وكانت الانتظار لأن تراني، لأن تقشع أين الظلام واين الثعلب الذي ينادي الليل تعال أيها الأسود وبي جوع إلى المنقذ، إلى الدجاجة أو إلى الديك الذي ربما يتلوّى ولا يعقل. أو هو المشوار أخذه إلى سرير الغبطة إلى العبث بحسب تلك المقولة أن وراء الأكمة لا ازدحام بل أحدهم، أو هو أبو ذنب وأبو جلد تسكر له الموضة ومقصد الأزياء الدافئة.

وأريدكم أن تسمعوا عن بيروت هذه الحمراء حيث نحن، وحيث كانت لنا منطقة الهوس وكأس الكؤوس والملح والبهارات وهنّ سبع – ونحن بدأناها وافتتحناها على مقاعدها والى طاولتها وهي أحداهنّ في ذلك المقهى المبتدئ والذي كان النعيم والهيصات ويؤوي الرغائب المتناسقة.

وليس أن تعرفوا انني منذ تلك الضيعة، كما فعلت الحكاية، حكاية الفتاة والملك وابنه والحذاء وفردة الحذاء الضائعة، رحت في المدينة حيث الترحال والاغتراب إلى ما بعد منتصف الليل، لأجد أين العنزة واين المرقد واين الرائحة من ذلك الزمان، من ذلك المطرح والموقع. وأين أنا ومن أي شيء هو العلامة لأبدأ، لأبحث لأصادفها تلك العنزة المهضومة والتي تغرق منذ باب الألف في حقل الشقاء، وتظل لاهثة إلى أن يأتي الكتاب أو القصيدة أو القارئ أو الصبي أو الشاعر ويقول لها مطلع الديمومة وأرجوحة السعادة، ونيّال من له، ذلك المرقد.

وكانت العنزة في بيروت الحمراء هي تسير وراء الرجل وفي قيادة الراعي وأنا ولعلّها الصدفة بل ما يؤلف الحقيقة، هي سارت بي في منطقة الحمراء، في تلم الآونة لأقول أنه هنا المرقد. وكلنا نفتش عن العنزة سوداء أو غير تلك السحنة وكانت مرة تنطحني ومرة أنا أفعل وتجيء الحشيشية إلى فهمها ومرة تتركني على رسلي على تؤدة ومرّة تقذفني خطوات إلى اليمين، وخطوات إلى المزاح وصوب عشبة الصداقة الملتهبة وحيث ما زالت حيّة هي المغناجة، وأنا أغذيها وأمنحها لتظلّ تحت دفء العافية، وأهشّ لها إما بمقالة لسمير عطالله وإما بفكرة ونظرة من الدكتور علي الصمد، وإما بقصيدة لنعيم تلحوق، وإما بالبحث والنظرية من الصديق عبده لبكي، وإما بالفكرة الدائمة الحماسة من الصديق المؤبّد سليمان بختي وأما بخاطرة وبلمعة من الصديق المؤبّد محمود شريح، وإما بالكلمة الدقيقة من الصديق سلمان زين الدين، وإما بفكرة ونظريّة من الصديق سركيس أبو زيد، وإما بالعمل المزهر والشاق من الحبيب الرئيس رئيس بلدية زغرتا إهدن الدكتور سيزار باسيم، وإما بالصديق الرنّان وكأنه العود والقانون الصحافي والشاعر لامع الحرّ، وهي تنطحني إن لم آخذ من عقل العويط قصيدة أو مقالة لأنه شاعر الكلمة وناثرها ليحاصرها بالنظرة المستقيمة.

وترغب هي في مسرحية أو فكاهة عارمة للأب فادي تابت، وترغب في القراءة من نصوص فوزي يمين ومحسن يمين حيث السكينة الخلاّقة تناقض محاسن الفوضى، وحيث الفنان سميح زعيتر يبدع الصورة.

ويا بيروت الحمراء يا مرقد العنزة السابق الذكر والشكران والفصاحة سأظلّ أسقيك وأسقي نفسي لتكون الزهرة، لتكون كما ينبغي للهندام أن يكون، وأن تنبت من صوبي ومن صوبك شجرة المرحبا ومرحبا يا قوم الذوق والسحابة الممطرة، ولا قبعة على رأس الصباح لأنه كذلك ولأنه مشغول بأن يستقبل الأخت الشمس، أختنا في العزوبية ولا خاتم يشرق وحده من المنجم ليقول أنها تفتش الكون عن عريس يقودها إلى المعبد، إلى العرس حيث النار ولا حاجة إلى الكبريتة ليكون، ليفور الطعام، ليكون وافراً وطوفاناً من الحلوى ومن دست الشورباء والروح ترفرف ويباركنا سبحانه ويرسل ملاكه ضيف المائدة وجدّنا التاريخ على كرسي النجمة هي أعارته ليكتب الوصية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *