للمرة الأولى في الجامعات اللبنانية والعربية: العلامة القصوى لـ مي ضاهر يعقوب على رسالة ماستر حول النثر عند الشاعر شوقي أبي شقرا

Views: 463

للمرة الأولى في الجامعات اللبنانية والعربية، كان النثر عند الشاعر شوقي أبي شقرا موضوع رسالة ماستر، من خلال دراسة مقالات له نشرها في جريدة النهار بين الأعوام 1994 – 1995، وجمعها في كتاب “سائق الأمس ينزل من العربة” عن دار نلسن عام 2000. 

يوم الجمعة الواقع فيه 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، في كلّية الآداب في الجامعة اللبنانية، تمّت مناقشة رسالة الطالبة والصحافيّة المخضرمة مي ضاهر يعقوب أمام لجنة الأساتذة التي تألفت من الدكتورة مهى جرجور (رئيسة)، الدكتورة ناتالي الخوري (أستاذة مشرفة) والدكتورة خديجة شهاب (قارئة ومناقِشة)، وعميد الكلّية الدكتور أحمد رباح ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الفرع الثاني – الفنار الدكتور إيلي أنطون، بحضور أبي شقرا وزوجته، ونقيب المحرّرين جوزف قصّيفي، وعدد من الأصدقاء وطلاب الماسترالمهتمين بالعمل. وقد دُعيت الطالبة  إلى إلقاء كلمتها في موضوع الرسالة التي تمّت المناقشة على أساسها، ونالت تقدير جيّد جدًا بالعلامة القصوى وتنويه اللجنة وتوصية بالنشر. 

وجاء في كلمتها عن العمل الذي تناولته بالمنهج البنيويّ التكوينيّ:

مي ضاهر يعقوب تلقي كلمتها أمام لجنة المناقشة المؤلفة من الدكتورة مهى جرجور (رئيسة)، الدكتورة ناتالي الخوري غريب (استاذة مشرفة) والدكتورة خديجة شهاب (قارئة ومناقِشة).

 

أسلوب لا شبيهَ له

“أنا الآن، في حضرةِ الأستاذ شوقي أبي شقرا، الشاعرِ والأديبِ، أناقشُ رسالتي عن نثرِه الذي طالما شدّني إليهِ في مقالاتِه المنشورة بين عامَي 1994 و1995 في صحيفةِ “النهار”، وقد جمعتْنا تحتَ سقفِها في مبناها السابقِ في شارعِ الحمراءِ؛ وبين صفحاتِها على مدى سنواتٍ طويلةٍ، في ظروفٍ حلوةٍ وصعبةٍ في آنٍ، بينَ أيّامِ الحربِ الداميةِ والسلمِ الموعودِ. وقد اخترتُ أن أكتبَ عنْ عملِ الأستاذ شوقي النثريّ، وهو الشاعرُ من شعراءِ الحداثةِ وصاحبُ نحوَ أربعَة عشر ديوانًا شعريًّا، آخرُها صدرَ حديثًا، لأنّ النثرَ الذي يكتبُه يأتي بأسلوبٍ لا شبيهَ له بالعمقِ والغرابةِ في الشكلِ والمضمونِ. وقدْ جمعَ مقالاتِه في كتابِ “سائقُ الأمسِ ينزِلُ من العربةِ”، ومنه استقيتُ عددًا من المقالاتِ لدراستِها في البحثِ الذي قدمتُه للحصولِ على شهادةِ الماستر البحثيّ في الأدبِ العربيّ.  يجمعُ هذه المقالاتِ، أو يتقاطعُ فيها، قلقُ الانسانِ المرهَفِ المثقّفِ، كلِّ مثقّفٍ، أديبًا أو فنّانًا أو صاحبَ فكرٍ خلاّق، يرفضُ أن يُفرضَ عليهِ ما لا يقتنعُ بِهِ، أكانَ من جانبِ السلطةِ السياسيّةِ الجائرة، أو المجتمعِ الأكاديميّ الصارمِ. وتطرحُ  هذه النصوصُ قضايا شكلّتْ أزْمةً للكاتبِ وللمثقّفينِ المبْدِعينِ الذين يعملون للتجديدِ خروجًا عن المألوفِ، ويسعونَ للتعبيرِ الأدبيِّ والفنّيِ بحريّةٍ مطلقةٍ من دونِ كلِّ محاولاتِ التسلّطِ أو القمع أو التدجينِ الخارجيّ. 

لقد تحدّثَ المفكّرُ الفرنسيُ رولان بارت عن معركةِ المثقّفينِ ضدَّ السلطةِ بكل أنواعِها، قائلاً: “إن معركتَنا، نحنُ المثقّفين، تقومُ ضدَّ السلطةِ في أشكالِها المتعدّدةِ، وليستْ هذه بالمعركةِ اليسيرةِ؛ ذلكَ أنَّ السلطةَ متعدّدةٌ في الفضاءِ الاجتماعيّ وممتدةٌ في الزمانِ التاريخيِّ، وعندما نبعدُها وندفعُها هنا، سرعانَ ما تظهرُ هناك، وهيَ لا تزولُ البتّةَ. قمْ ضدَّها بثورةٍ بغيةَ القضاءِ عليها وسرعانَ ما تنبعثُ وتنبتُ في حالةٍ جديدةٍ. ومردُّ هذه المكابدةِ والظهورِ في كلّ مكانٍ هوَ أنَّ السلطةَ جرثومةٌ عالقةٌ بجهازٍ يخترقُ المجتمعَ ويرتبطُ بتاريخِ البشريّةِ في مجموعِهِ، وليسَ بالتاريخِ السياسيِّ وحدَه؛ هذا الشيءُ الذي ترتسمُ فيه السلطةُ، ومنذ الأزلِ، هو … اللغةُ! إن اللغةَ سلطةٌ لأنَّها تنطوي على تصنيفٍ، وكلُّ تصنيفٍ ينطوي على نوعٍ من القهرِ. إن كلَّ لهجةٍ تتعيّنُ لا بما تُبيحُ بل بما تُرغَمُ على قولِهِ”. 

هذا ما وجدتُهُ يمثّلُ أزْمةً لدى شوقي أبي شقرا ككاتبٍ وشاعرٍ وأديبٍ وصحافيٍّ ومفكّرٍ، وقد اخترتُ هذا الموضوعَ لأهميّةِ القضايا التي طرحَها الكاتبُ في مقالاتِه والمرتبطةِ بواقعِهِ المعيشِ كمواطنٍ وكصحافيٍّ وكمثقّفٍ. وهو لم يتعاملْ معَ نصوصِهِ النثريّةِ كمقالاتٍ صحافيّةٍ منشورةٍ في جريدةٍ، بل جعلَها  لوحةً أدبيّةً حداثويّةً  ذاتَ أبعاٍد فكريّةٍ وإنسانيّةٍ، فيها من التصريحِ والتلميحِ ما يدلُّ إلى عمقِ الأزْمةِ التي كانَ يعيشُها أبي شقرا خصوصًا، والمثقّفُ اللبنانيُّ عمومًا، في تسعينيّاتِ القرنِ العشرينِ، بعدَ انتهاءِ الحربِ الأهليّةِ في البلدِ واتفاقِ أطرافِها على وثيقةِ الوفاقِ الوطنيّ المعروفةِ باتفاقِ الطائفِ.

 مع عميد كلية الآداب الدكتور أحمد رباح

 

المنهجَ البنيويِّ التكوينيِّ

لقد اعتمدتُ المنهجَ البنيويِّ التكوينيِّ في بحثي لأنّه يساعدُ في دراسةِ بنيةِ النصِّ، من خلالِ تحليلِ مستوياتِه المعجميّةِ والتركيبيّةِ والبلاغيّةِ، وكذلك، في دراسةِ بنيةِ المجتمعِ الذي أثّرَ على فكرِ الكاتبِ الواردِ في النصِّ. وقد جاءَ المنهجُ البنيويُّ التكوينيُّ كردّةِ فعلٍ على المنهجِ البنيويِّ الشَّكليِّ الذي يهتمُّ بمضمونِ النصِّ الأدبيِّ فقطْ  من دونِ أيِّ تأثيرٍ خارجيٍّ. أمّا المنهجُ البنيويُّ التكوينيُّ فيشيرُ إلى العلاقةِ الوظيفيّةِ بين البنيةِ الدّالةِ والبنيةِ الاجتماعيّةِ، ويتجاوزُ فرديّةَ الكاتبِ إلى الطبقةِ الاجتماعيّةِ التي ينطلقُ منها، ومن خلالها يتعالقُ النصُّ بالمجتمعِ والتاريخِ.

يُقسمُ هذا البحثُ إلى فصْلينِ: يتناولُ الفصلُ الأولُ البنيةَ النصّيةَ للمقالاتِ المختارةِ وتحليلَها بحسبِ المستوى المعجميِّ المتعلّقِ بـ “الكلمةِ”، “الثقافةِ” و”الأزمةِ”، والمستوى التركيبيّ في رصدِ التجاذباتِ من خلالِ أدواتِ الاستفهامِ والتكرارِ والنفيِ، والمستوى البلاغيّ في تصويرِ مؤشراتِ الأزْمةِ في التشابيهِ التي تحيي الجمادَ، الاستعاراتِ التي تحرّكُ الصورَ، والكناياتِ التي تعانقُ قلقَ الأفكارِ. 

يعالجُ الفصلُ الثاني من هذا البحثِ البنيةَ الاجتماعيّةَ لأزْمةِ المثقّفِ من خلال التوتّرِ الظاهرِ في النصِّ بينَ الكاتبِ المبدعِ، من جهةٍ، والمجتمعَينِ الأكاديميِّ والسياسيِّ من جهةٍ أخرى، من حيثُ العلاقةُ بينَ السلطةِ والمثقّفِ وما يشوبُها من خُططِ تدجينٍ ومواجهةٍ  وما يقابلُها من انتفاضةِ ورفضِ، والأزْمةِ بين المجتمعِ الأكاديميِّ والمثقّفِ منْ خارجِ هذا المجتمعِ، وما يشوبُها من تفاعلٍ وتعالٍ وصراعٍ. 

من خلالِ هاتين البُنْيَتينِ، النصّيةِ والاجتماعيّةِ، قرأتُ رؤيةَ الكاتبِ للعالمِ ومرتكزاتٍ أخرى في البنيويّةِ التكوينيّةِ من فهمٍ وتفسيرٍ ووعيٍ وتماثلٍ، كما وضعَها المفكّرُ لوسيان غولدمان.

لا بدّ أن أشيرَ إلى الفصولِ المعتمدةِ في هذا البحثِ والتي تقتضي توازنًا وتوازيًا بينها، لكنّ هنا، في المنهج البنيويِّ التكوينيِّ، لم أتمكّنْ من مراعاةِ هذا التوازنِ لأن طبيعةَ المنهجِ البنيويّ تفرضُ التعمّقَ بالتفاصيلِ. وقد اعتمدتُ جداولَ تحليليّة للمستوياتِ المعجميّةِ والتركيبيّةِ والبلاغيّةِ ما أدّى إلى تجاوزِ حجمِ الفصلِ الأوّلِ أي البنيويِّ، حجم الفصل الثاني أي التكوينيّ. لذلك أرجو تفهّمَ أعضاءِ اللجنةِ لهذا الأمرِ الذي فرضَ نفسَهُ على البحثِ. 

من اليمين: الدكتور ايلي انطون رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الفرع الثاني – الفنار، الدكتورة ناتالي الخوري، الاب اميل يعقوب، الدكتور أحمد رباح، مي ضاهر يعقوب، الاستاذ شوقي أبي شقرا، الدكتورة مهى جرجور، والدكتورة خديجة شهاب.

 

خلاصة هذه الرسالة

في خلاصةِ هذه الرسالةِ، ومن خلالِ النصوصِ النثريّةِ التي عَمِلتُ على تفكيكِها وتحليلِها، استطعتُ إثباتَ الفرضيَّةِ التي طرحتُها في مقدّمةِ البحثِ، وهي عدمُ قدرةِ الكاتبِ على تحقيقِ التغييرِ الذي يَنشُدُهُ بالحريّةِ الكاملةِ والأمنِ الاجتماعيِّ إلاّ في التعبيرِ الكتابيِّ الابداعيِّ. وعلى الرغمِ من الحواجزِ الخارجيّةِ التي ترتفعُ أمامَهُ مِن السلطتينِ، الأكاديميّةِ والسياسيّةِ،  فهمتُ أزْمةَ المثقّفِ في فكرِ الكاتبِ من آمالٍ وتطلّعاتٍ وخيباتٍ ورؤيةٍ للعالمِ، وذلك من خلالِ رؤيةِ طبقتِهِ الاجتماعيّةِ الزراعيّةِ الريفيّةِ الفقيرةِ واتحادِه بها. وبَقيتْ المدينةُ له، أي بيروتَ، بكلِّ تفاصيلِها، كولدٍ يتيمٍ في مدرسةٍ داخليةٍ، وعيشِهِ فيها متنقلاً بين شوارعِها يافعًا ومراهقاً ورجلاً، بخاصةٍ في ساحةِ البرجِ التي حفظَها بكل زواريبِها وأسواقِها ومشاربِها ودورِ سيناماها، ومبنى الشرطة في ساحتِها، لتنتهي مع تهديمِها في أعمالِ إعادةِ بناءِ الوسطِ التجاريً في مشروعِ “سوليدير” الشهير. هذا المكانُ رسمَهُ أبي شقرا بكلماتِهِ كما يحلو له، أو كما يحلو لأهلِ القرى أن يرسموه ليستطيع تحمّلَ عذابَ العيشِ فيه. وقد رصدتُ كآبةً وحزنًا عميقينِ شكّلا الحاجزَ الذاتيِّ الذي يسمُ الصراعَ الخفيَّ والظاهرَ في  نصوصِ الكاتبِ أمامَ التجاذباتِ المختلفةِ التي تعمد إلى تطويق فكرِه المبدع.

وفهمتُ أزْمةَ المثقّفِ أيضًا من خلالِ البيئةِ الثقافيةِ الفريدةِ التي انتمى إليها الكاتبُ، وشكلّتْ جماعةً ذاتَ مواصفاتٍ خاصةٍ، في مرحلةٍ زمنيّةٍ من تاريخِ الأدبِ الحديثِ في لبنانَ، بين الأعوام 1957 و1970، ألا وهي جماعةُ مجلّةِ “شعر”. ولا يزالُ أبي شقرا، وبالتأكيد الشاعرِ أدونيس، الشاهدينِ الباقيينِ الأساسيّينِ على انتصاراتِ هذه الجماعةِ وإخفاقاتِها، وإنْ لمْ يخرجا منها، بعد أفولِ المجلّةِ ورقيًا، من خلالِ حركةِ التحوّلاتِ الكبرى التي طبعَتْ نتاجَيهِما، كلاً على طريقتِه في التمرّدِ على الثابتِ والاتّباع، واعتناقِ التحوّلِ والإبداعِ. 

وأخيراً وليس آخرًا، يبقى الكثيرُ من نصوصِ أبي شقرا النثريّةِ، مادةً مهمّةً  للدراسةِ المعمّقةِ بمختلفِ مواضيعِها الأدبيّةِ والفكريّةِ والوجدانيّةِ، وهي نصوصٌ تستحقُ المتابعةَ في دراساتٍ بحثيةٍ أكاديميّةٍ مستقبليّةٍ، توضحُ أفكارَ الكاتبِ ولغتَه التجديديّةِ، وبخاصةٍ الشعريّةِ في نثرِه والأبعادَ التصويريّةِ، ومنها الغرائبيّةِ التي بها يتحدّى التقليدَ في اللّغة، يكسرُ قشرتَها ويخرجُ منها فراشةً بيضاءَ سليمة معافاة تحلّق بعيدًا لا يتسّع لها مكانٌ ولا فضاء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *