بيروت الحكاية التي لا تنتهي

Views: 706

فيصل طالب

(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)

هو الكابوس مرّةً أخرى يأتيكِ على حين غفلة منك، وقد امتلأ حقداً وانتفخ لؤماً وانفجر بغضاً، ليقضّ مضجعكِ، ويحاول إطفاءَ أنواركِ وهدْمَ حلمك الباقي من زمن جميل، سبق له أن تغلغل في ثنايا  القلوب التي عشقتكِ دهراً، وفارقتكِ قسراً، واستقرّت في البال عمراً، وحملتْ من زهر الذكريات فيكِ مؤونةَ الضوْع لما بقي من أعمار تجهد للتعويض عمّا ضاع منها، وهي تشكو من ضيق التنفّس لأنّها كانت تتنشّق من غير رئتيك العطرتين!

بيروت الحلم الذي استعصى على الذبول في أزمنة الانكسارات والهزائم، والقامة المنتصبة دائماً في وجه كل غازٍ مارق لئيم. بيروت الكتاب المفتوح، والمنتدى الجامع، والقصيدة التي تبحث عن اكتمالها في مفردات التواصل والتلاقح والاغتناء. بيروت التي بدأت حرفاً وسطعت حرفاً، وفخرت بوليدها ساكناً فوق القرطاس، ومتألّقاً في العيون، ومنسكباً من يراع الدنيا، وناشراً عبق الفكر في العالمين.

بيروت .. يا بيروت!

يا حوريّةً سكنت برّك العامر ذات مرّة، ثمّ نسيت طريق العودة إلى بحرك الزاهي.

بيروت يا لؤلؤةً على شاطئ الدنيا تشعّ عشقاً يسافر مع نسائم الحريّة إلى أربع رياح الأرض.

بيروت الشمس التي لا يحجبها الغمام، والنجمة التي لا تخفيها العتمة، والنهر الذي لا تعيقه الصخور، والأنثى التي لا تخلع ثوب عرسها الأبيض حتى في أوقات الحداد. بيروت الحكاية المشوّقة التي لا تنتهي فصولها مع تبدّل رُواتها، واللوحة الجميلة المبدعة التي كلّما نظرنا إليها اكتشفنا غفلتنا عن معان أخرى خبيئة وأبعاد مضمرة ورسائل مرمّزة.

لا تعرف بيروت التي خبرت النكبات أن تنام على جروحها، أو تتكئ على تعبها، أو تغمض جفونها على نعاسها، بل هي اعتادت أن تظلّ متوثّبة يقظة مندفعة، مهما نالت الأشواك منها ألماً. بيروت الصابرة المتشبثة بالحياة، الناهدة أبداً إلى السطوع والألق والريادة والفرادة، مهما لفحتها النوائب بهجير النكران والعقوق.

إنهضي يا درّة الشرق من كبوة جوادك الأصيل، واستفيقي من هول الكارثة، وامسحي دمع أحزانك بمنديل قدرتك الخارقة على الاحتواء والتجاوز، وامضي مع طائر الفينيق في رحلة القيامة من جديد من بين رماد الأسى والآلام، وارفعي تاجك من فوق ركام التهافت بيد الإرادة التي لا يقف في طريقها شيء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *