إلى ليدي دعيبس: شجرة الكولونيا

Views: 707

إيمان ريدان

“ليدي”،  من بلاد جبيل، هجّرها ثقل الأحزان والخسارات على مفارق الوطن، فحملت صليبها، وابتعدت إلى محطة أخيرة في ” نيوجرسي”. تأتي صيفًا كما كلّ المتعلّقين بحبّ الوطن الأمّ، لتعبّ من زرقة البحر المتوسطيّ، سُمرةً، ورفقةَ صديقات، وذكريات، ثم تعود إلى شتائها الهادىء على ضفاف نهر هادسن المتجمّد.

“ليدي” المسيحيّة، كان لها صديقة درزيّة من بلاد الشّوف، سارت مثلها على درب آلام هذه الأرض المجروحة، ومثلها اختارت الغربة بطواعية إلى رمال صحراء الخليج العربيّ، (على اعتبار أنّ الوطن من هناك على مرمى حجر الطّفولة والأهل والأحبّة).

   ما جمعهما لحوالي خمس سنوات، امتدّ إلى سنوات عمر مديد، أو حيوات متعاقبة، خُيّل إلى صديقتها…فقد كانت جلساتهما حول فنجان قهوة صباحًا، تأخذهما إلى مكامن أسرار الرّوح، وتجارب نيّرة، ودروس اليوغا التي كانت “ليدي” تتقن أبجديتها، مترافقة مع ضحكتها الرنّانة، وتفاؤل بالفطرة والتّجارب معًا.

في البيت الذي استأجرتُه لديها، كانت الأيام تنبسط أمام  صديقتها، كمركب فينيقيّ يعبر بها بين البحار والموانىء ليستقرّ في بلاد الأبجدية والأرجوان. لم تكن لتصدّق كلّ هذا الجمال الذي كانت تبوح به دروبُ المدينة، وطرقاتها المزهرة بالدّفلى والياسمين، والمؤثّثة ببعض من نواويس، وفسيفساء، وبقايا أسوار ضخمة، وكنائس من زمن الرّومان .كلّ حجر فيها عليه بصمات من شعوب، وصيّادين، وغزاة، ومستعمرين، ومعمّرين، وقاطنين..لقدكانت كالضّائعة السّعيدة في غابة الحجر،  المحروسة بميناء قديم مشرف على الأزرق.

 

  اعتادت صديقة” ليدي” أن ترسل إليها صور الفصول الثّلاثة المتعاقبة في المدينة بإضاءات مختلفة إلى مقرّها الشتويّ الأميركي، فيزداد حنينها إلى مدينة جبيل، حيث يتربّع في إحدى ساحاتها شامخًا تمثال العميد “ريمون إده”.

كان لاستذكار من سُميّ( بضمير لبنان ) وقعُ حياةٍ غابت بكبرياء في الغربة، لتزهر في الوطن الجريح كشقائق النّعمان، و”جبيل” بلاد أدونيس.. وكانت صديقتها تحدّثها عن المعلّم “كمال جنبلاط” كما كانت تراه، وتحبّه، من دون ادّعاء الإحاطة الكاملة بما كان عليه من ثقافة واسعة، وشخصيّة تجمع إلى إنسانيّتها ، النّزاهة والتّواضع…كانتا تستغربان كيف أنّ هذا الوطن يُنبت هؤلاء الرّجال الكبار، ولا يجد سبيلًا إلى عزّة، وهناء، واستقرار.

  أحبّتا لبنان على طريقتهما في رسائلهما الهاتفيّة المتبادلة، وكانتا تتواعدان على الّلقاء في صيف يمتدّ لثلاثة أشهر بالتّمام. لقد جعلَتها “ليدي” تحبّ السّهر في ضوء قمر الفضّة، ولكنّها شاركتها بالمقابل مراقبةَ ذهبيّة الغروب. ومع استغرابها من صديقتها الّتي لا تأمن البحر (فقد كانت ابنة الجبل)، استمرّت وهي (ابنة السّاحل)  في الذّهاب إلى شاطىء عمشيت، كان مقصدها اليوميّ لمعانقة الحياة، والهرب عبر أمواجه المربوطة بحبال الأفلاك بين مدّ وجزر. بالنّسبة لها هو واحة سلام، وناقل لنبضات روح الكون…

 

  انتهت إقامة الصّديقة  في تلك المدينة_البلدة السّاحرة، ولكنّها أقامت فيها كلّ الوقت، أينما كان ترحالها، وكأنّها تعرف المدينة وصاحبتها منذ أزمان. مدّدت الإقامة، وكانت ( ليدي) تلحّ عليها البقاء ما استطاعت. غادرت إلى إقامتها في القارّة الأخرى، وغادرت الصّديقةُ المدينةَ لأسباب عائليّة. تواعدتا على الّلقاء في أيّ مكان وزمان مُتاحَين. كانت رغبةُ “ابنةِ جبيل”، أن تزور أرز الشّوف، وتنسى نفسها في غاباته، وتحت شلوحه، وأن تعيد ذكرياتها في قراه عندما كان يصطحبها والدها وهي طفلة إلى هناك …

  على رأس هذه السّنة (الكبيسة عالميًّا) تباعدت الرّسائل من أميركا. حين سألَتْ عنها قريبَها، وقد انشغل بالها عليها،  أخبرها أنّها مريضة. اتّصلت بها، فطمأنتها أنّها على أبواب شفاء، وتأمل بالعودة إلى لبنان على الرّغم من انتشار فيروس كورونا، وأنّها ستطالبها بالحضور كما عندما كانتا جارتين، لا تفصل بينهما إلّا درجات قليلة، تجمع دربيهما المتقاطعين.

  بالأمس عَلِمَت أنّ صديقتها الجميلة” ليدي دعيبس” أسلمت الرّوح بين أحضان عائلتها في منفاها الطّوعي، تاركة إرث محبة مجبول بفجيعة غياب. أمّا الصّديقة، فغرقت بين دموعها وحزنها العميق. سوف تراها دائمًا في قلعة جبيل، وأرز الشّوف، وزرقة كلّ بحر،  كما في شجرة (الكولونيا ) الّتي زرعتها تذكارًا في حديقة (ليدي) وبناء على رغبتها، علّها تعبق بعطر محبّة في الّليالي المقمرات.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *