أنشودة خلاص

Views: 1059

يوسف طراد

يرتوي القارئ من أنشودة الخلاص شعرًا، ومن صدى الزجل اللبناني حفيف روحٍ، فتستكين براكين الأعماق عند قراءة ديوان الشاعر نجيب كرم، تحت عنوان (سفر التكوين وإنجيل ربنّا يسوع المسيح للقدّيس متّى بالزجل اللبناني).

فيضٌ من القصائد، لكلّ آيةٍ قصيدة، بدءًا بسفر التكوين عتبة الكتاب المقدّس العهد القديم. إذا أراد القارىء المقارنة، وجد الشاعر مدركًا لتتابع القصص والآيات، غير غافلٍ عن المعاني السامية، التي ترجمها روحًا مضافة من عبقريته وقريحته الشعرية المشهود له بها. كيف لا وهو من برحليون قرية المئة شاعرٍ وشاعر. وكان عطاؤه منقطع النظير، فقد أغنى مجلّة الجندي اللبناني قديمًا، ومن ثم مجلّة الجيش حاليًا بقصائد وطنيةٍ تحاكي الشرف والتضحية والوفاء.

الشاعر نجيب كرم

 

نستخلص من سطور الديوان على سبيل المثال لا الحصر البعض القليل مما ورد، عن بداية الخلق:

(ونظّمْ مسيرة على إيام السني…      وكلّ ما بيرحل ليل بشفق صباح)

هذا البيت هو ترجمةٌ للآية التي وردت في سفر التكوين (وقال الله: “ليكن نورٌ” فكان نورٌ، ورأى أن النور حسنٌ، وفصل الله بين النور والظلام، وسمىّ الله النور نهارًا والظلام ليلًا وكان مساءٌ وكان صباح يوم أول. تك 1-3).

عن عهد الربّ مع الأرض قال:

(وبيني وبين الأرض رمز محيّكو…  قوس القدح بلوان سبعة مبيني).

هذا القول ترجمة للآية (جعلت قوس قزح في السحاب، فتكون علامة عهد بيني وبين الأرض. تك 9-13).

أمّا عن سلّم يعقوب الصاعد ورد في كتابه الشعري:

(ماشي بطريقو تغلّب عليه التعب…  نام وحلم ومخدّتو شقفة حجر        ملايكة الله على سلّم خشب… عن يطلعوا وينزلوا والله حضر).

إنها أيضًا ترجمة شعرية للحلم الذي ورد خلال نوم يعقوب التي وردت قصّته في المقطع التالي (فوصل عند غياب الشمس إلى موضعٍ رأى أن يبيت فيه، فأخذ حجرًا من حجارة الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك. فحلم أنه رأى سُلّمًا منصوبة على الأرض رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها، وكان الربّ واقفًا على السٌلّم… تك 28 -12،13).

أمّا عن نسب يسوع في مطلع إنجيل متّى وردت الأبيات التالية:

(من إبراهيم لداوُد العالم ربي… بأجيال أربعتعش كانوا الأولين ومن النبي داود لبابل والسبي… بأجيال أربعتعش مرّوا آخرين ومن سبي بابل ليسوع الأبي… بأجيال أربعتعش مرّوا الباقيين).

عن ابتهال يسوع أيضًا مقطعٌ من قصيدة:

(يا بييِّ بشكرك عا هيك موقف…        تخبيّ عا الذكي وعا فزلكاتوا عا كلّ زغير أو جاهل تكشّف… برضاك بتنكشف أسرار باتو)

إنها أبيات مرادفة لما ورد في الإنجيل:

(أحمدك يا أبي، يا ربّ السّماء والأرض، لأنك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء. مت 11-25)

نبوءة أشعيا عن المسيح، كما جميع الآيات التي وردت في الإنجيل، كان لها نصيبٌ من الزجل الهادف، القريب إلى الروح من خلال السمع والقراءة:

(لا صوتو بمعرض الساحات سمّع… ولا قصبة المرضوضة لِويها    ولا فتيلي من الدّخان تشبع… حاول ينتهي منها وطفيها)

هذا المقطع الزجلي تفسيرٌ واضحٌ للآية التالية: (لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحدٌ صوته، قصبة مرضوضة لا يكسر، وشعلة ذابلة لا يطفىء. مت 12-19،20).

هل يمكن أن يدرج هذا الديوان ضمن أدب الزجل أو الشعر العاميّ الديني، أم ضمن أدب التأريخ المؤرّخ، إنها سابقة أن تؤرَّخ أحداثًا موثّقة في الكتب المقدّسة زجليًا، فالمؤرّخ المطران مخائيل ابن القلاعي أرّخَ زجليًا أحداثًا حصلت في عصره وليس أحداث الإنجيل أو التوراة. من يقرأ هذا الديوان، تمتلكه الرغبة بالمقارنة، ليجد المطابقة المؤكّدة نتيجة الجهد الهائل المبذول والفكر الصافي. خلال سطور مئتين وست وثمانين صفحة ضمها الكتاب، يرتسم ملاذ البائس، في بوصلةٍ تشير إلى نبعٍ يروي عطش الأحياء والسائرين نحو الحياة الأبدية، التاركين الموتى يدفنون موتاهم.

لم يبتدع الشاعر نجيب كرم أنشودة الخلاص، بل أنشد محبّة الإنجيل من حفيف الروح وزهو الإيمان، على وجنات السكون المترامي عبر الزمان. أدهشنا حضور فكره ابتسامةً خلف تجاعيد الحياة ووكلاء الله على الأرض، فزالت الهوامش الرمادية عندما ترك رحيق قداسة آيات الكتاب المقدّس في فسحةٍ خضراء ترتوي من هديل حمامة النبي نوح.

(الثلاثاء 28 كانون الثاني 2020)

***

(*) موقع MON LIBAN

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *