طريقٌ جديدة لحياةٍ طويلة

Views: 410

د. حسن شريف

أصبح أمراً واقعاً أنّ نسبةً من البشر اليوم يُمكن أن تعمِّر إلى أكثر من مائة سنة. وهذه النسبة تزداد باستمرار، مقابل نقصٍ مُتزايد في نسبة الذين هُم دون العشرين. وتداعيات هذا الأمر عميقة ومتشعّبة. نلحظ هذه التطوّرات الديموغرافيّة في الدول الصناعيّة بشكلٍ خاصّ. ولهذا، فإنّ المَساق الحاليّ ثلاثيّ المراحل لحياة الإنسان، أي الولادة، فالعمل ثمّ التقاعُد – لم يعُد يمثّل التطوّر الفعليّ في المُجتمعات الرّاهنة.

إنّ طول العمر مَورِد قيَمٍ للمُجتمع، ويدعو إلى إعادة التفكير في مساقات الحياة وخريطتها بالنسبة إلى الأجيال التي تولد اليوم؛ ولا بدّ من إعادة هَيْكلة شاملة لهذه الخريطة، وإدخال المزيد من المراحل المتعدّدة والمرنة، وإلى تغيير مواصفات كلّ مرحلة جديدة قد تتضمّنها حياة الذين سيعيشون مائة عام. من ذلك، التعلُّم “من المَهد إلى اللّحد”، وتبديل صيَغ العمل وأنواعه وأماكنه، والتدريب المُستمرّ على مهاراتٍ جديدة، واعتماد هواياتٍ مُتعدّدة ومُتجدّدة، وأخيراً الانغماس في العمل التطوّعي وفي المؤسّسات المُجتمعيّة المُختلفة.

ومن القضايا التي لا بدّ أن تترافق مع خريطة الحياة الجديدة، مُعالَجة الأوضاع الصحيّة للمُعمّرين، بما يضمن لهم حياة صحيّة وسعيدة ومُرضيَة لصاحبها وللمُجتمع؛ وكذلك لا بدّ من دراسة الأبعاد الماليّة، من تكلفة ومردود، المترتّبة على الفرد وعلى المُجتمع، بسبب الزيادة المُتصاعِدة في عدد المُعمّرين.

أدوارٌ جديدة للمُعمّرين

تتنوّع الحالات الصحيّة والنفسانيّة والفكريّة والمُجتمعيّة والماليّة بين المُعمّرين الذين قد يتجاوزون سنّ التقاعُد القانوني التقليدي، وربّما لفترة طويلة؛ والطيف المتنوِّع للمُعمّرين سيكون في تحوّلٍ مُستمرّ بسبب التغيّر المُتسارِع في التكنولوجيّات ذات العلاقة، وكذلك بسبب التغيُّر في الأوضاع المُجتمعيّة وفي السياسات الحكوميّة والقيَم الاجتماعيّة ذات العلاقة، وفي صيَغ الرعاية الصحيّة للمُعمّرين وتوافرها.

ورسْم خريطة جديدة لحياة المرء، من المهد إلى اللّحد، لا بدّ أنّ يأخذ بالاعتبار أنّ العائلة الواحدة قد تضمّ أربعة أو خمسة أجيال أو أكثر، وكذلك أماكن السكن ومجموعات العمل. وهذا يطرح بشكلٍ جدّي ضرورة التعمُّق في دراسة العلاقات التي يُمكن أن تنشأ بين الأجيال المُتعايِشة، وما يُمكن أن يقدّمه المُعمّرون للأجيال الأخرى، من حديثي الولادة إلى العاملين في العائلة، وما يُمكن أن تقدّمه مُختلف الأجيال المُختلفة للمُعمّرين من دعْمٍ نفساني واجتماعي وعاطفي، وربّما مالي إذا قصرت مرتبات التقاعُد عن تلبية احتياجاتهم.

إنّ هذا التغيّر المتوقَّع في التركيبة الاجتماعيّة لغالبيّة المُجتمعات، وزيادة عدد المُعمّرين إلى جانب أجيال متنوّعة مُتعايشة معهم، يتطلَّب نظرة مُستقبليّة متعدّدة الأبعاد. ولا بدّ هنا من أخْذ التطوُّر التكنولوجي والمُجتمعي المُتسارِع بالاعتبار. فالإنترنت مثلاً، أصبحت أداة التواصل شبه الشاملة ويُمكنها أن تؤمِّن استمرار التواصُل العائلي والمُجتمعي عن بعد، كما يُمكنها أن توفِّر مُختلف المعلومات عن المُعمّرين ولهم بما يضمن للجميع العلاقة الصحيّة والسليمة.

هذه المُتغيّرات كلّها تتطلّب تغيّراً مُتسارعاً مُوازياً في السياسات الحكوميّة وفي العلاقات المُجتمعيّة، أخذاً بالاعتبار البطء المعروف في صياغة مثل هذه السياسات والعلاقات وفي تنفيذها.

خريطةٌ جديدة لحياةٍ مديدة

تُمثّل “إطالة العمر” واحدة من أهمّ تحدّيات هذا القرن، وهي في الوقت نفسه فرصة حقيقيّة للفرد والمُجتمع. وللاستفادة المثلى من حياة قد تمتدّ لأكثر من قرن، لا بدّ من تحوّلات جذريّة في نظرتنا إلى الحياة وفي الإعداد لها من الطفولة المبكّرة. وهنالك استثمارات ضخمة على المستوى العالَمي، في العِلم والتكنولوجيا، لإطالة عمر الإنسان، ولجعْل “الفترة الإضافيّة” من الحياة مليئة بالصحّة والسعادة والإنجاز الفردي والمُجتمعي. وهنالك مُبادرات عديدة في المُجتمعات المتقدّمة لتطوير صيَغ مُبتكَرة في السياسات العامّة والمُجتمعيّة لنماذج جديدة من الدعم المُجتمعي للمُعمّرين.

وهنالك حاجة لإعادة تعريف كلمات مثل: العمل، والوظيفة، والتقاعد، والحياة العائليّة، وحتّى لتعبير “طول العمر” وللكلمة التي يُمكن أن تعبِّر عن أصحاب العمر الطويل: المسنّ، العجوز، المُعمِّر، الكبير في السنّ.

وهنالك ضرورة لتطوير مُمارسات تضمن للكبار بالعمر، ليس الصحّة والسعادة فقط، ولكن أيضاً تحفظ لهم دَوراً وفرصة للمُشارَكة الفعّالة متعدّدة الأبعاد في البيئة المُجتمعيّة حولهم. وهنالك دراسات معمّقة للربط بين مراحل الحياة الأولى والإعداد الجيّد للمَراحِل المتأخّرة منها.

تتساءل دراسات كثيرة عن كيفيّة التعامُل مع فكرة مرحلة التقاعُد التقليدي من النواحي العمليّة المُختلفة: الماليّة والصحيّة والنفسانيّة والإنتاجيّة. فهنالك توجُّه مُتزايد لإلغاء مفهوم الثبات في عملٍ واحد لفترة طويلة، وفي مؤسّسة واحدة، بما يضمن للمرء مستوىً مريحاً من الناحية الماديّة عند التقاعُد. والتوجُّه هو إلى تعدُّد الوظائف المُدرّة للدخل وتغيّرها باستمرار، مع التغيُّر المُتسارِع في مُستجدّات التكنولوجيا وما يرافقها من تغيّر في احتياجات سوق العمل. كما أنّ هنالك توجُّهاً للاستمرار في العمل المُنتِج المُدرّ للدخل لفترات طويلة بعد سنّ التقاعُد التقليدي، مع احتمال أن يقلّ دخل عمل الكِبار في العمر بسبب تغيُّرٍ واقعي في مَقدرتهم على تلبية متطلّبات العمل، من حيث الجهد الجسدي وساعات الدوام ومتطلّبات الحركة والتواصُل والسفر. ومثل هذا التغيّر في مفهوم التقاعُد قد يتطلّب صيغاً مُبتكَرة متعدّدة، حكوميّة وفرديّة، كبديل لنموذج الدخل التقاعدي التقليدي، تضمن المُتطلّبات الماديّة للمُعمّرين في المراحل المتأخّرة من العمر، من دون أن يشكّل ذلك المزيد من الأعباء على المُجتمع.

وهنالك توجُّه أيضاً لتصميم تجمُّعاتٍ سكنيّة تُخصَّص للمُعمّرين تأخذ بالاعتبار ليس احتياجاتهم الصحيّة والجسديّة فقط، ولكنْ أيضاً احتياجاتهم المُجتمعيّة والفكريّة والعاطفيّة، وحتّى فترات التسالي واللّهو والمتعة. مع الأخذ بالاعتبار ما سيطرأ من مُستجدّاتٍ تكنولوجيّة قد يكون بعضها مُساعِداً للمُعمّرين، في حين سيكون بعضها الآخر غير مُراعٍ لأوضاعهم، بل ربّما يكون مُعيقاً لهم.

وهنالك سوق كبيرة وفُرص متعدّدة لمُبادرات في الأعمال لتصميم وإنتاج سلع وخدمات تتوجّه بشكلٍ خاصّ للمعمّرين على اختلاف أوضاعهم وأهوائهم وأعمارهم.

أسئلة لا بدّ منها

حتّى نستطيع الوصول إلى خريطةٍ جديدة لحياةٍ مديدة لا بدّ من طرْح أسئلة مثل: ما هي الأدوات والنماذج والأُطر التي نحتاجها لتحويل المُجتمعات البشريّة، بما يأخذ بالاعتبار الزيادة المُطّردة في حياة الإنسان؟ وما هو التصوُّر الفكري والسوسيولوجي الذي يُمكن أن يترافق مع مثل هذا التحوُّل؟

كيف نطوِّر لغةً تتناسب مع التغيُّر في العلاقة مع المُعمّرين بما يتجاوز النموذج التقليدي عن المُعمّرين؟ كيف نُعيد صَوْغ “فكرة التعلُّم” التي تحدِّد متى وأين يكون التعلُّم، لنبلوِر صيغة التعلّم من المهد إلى اللّحد، وفي كلّ مكان، ومن كلّ إنسان، بل من كلّ شيء حولنا؟

كيف ندمج هذه الخريطة في كلّ مراحل الحياة، بحيث نبدأ من مَراحل الطفولة المبكّرة في الإعداد لمَراحل العمر المتأخّرة؟ وكيف نبدأ بإعداد الطفل لحياةٍ مديدة مليئة بالمُتغيّرات المُتسارِعة في التكنولوجيا وفي الصيَغ المُجتمعيّة والعمل؟ وكيف نطوِّر صيغة تعلُّم لتجمُّعات متعدّدة الأجيال؟ وكيف نُدخل موضوعات “الحياة المديدة” بشكلٍ مفيد ومُمتع في مُختلف مساقات التعليم؟

كيف نُعيد تعريف “الحياة المُنتِجة” للإنسان الفرد ونطوِّر نَماذج لحياةٍ مديدة متنوّعة المَراحِل؟ وكيف نُخطّط في كلّ مرحلة “لمدخول” من حياةٍ مُنتِجة يتناسب مع كلّ هذه المُتغيّرات، بحيث تُدار الميزانيّة الماليّة للعائلة الواحدة متعدّدة الأجيال بشكلٍ يُناسِب الجميع؟

ماذا تفعل الدول في هذا المجال؟

بدأت دُول عدّة بمُبادرات متعدّدة في بَرامِج تُعتبر صديقة للمُعمّرين، تهيّئ لهم حياة صحيّة وسعيدة، وإن لم ترْقَ هذه النماذج بعد إلى رسْم خريطة جديدة لحياة مواطنيها.

بعض هذه البَرامج موجَّه لمتوسّطي العمر ليبدأوا بالإعداد للمراحل اللّاحقة في حياتهم، تتعلّق بالصحّة والأحوال الماليّة والاجتماعيّة؛ وبعضهم أعدَّ برامِج متنوّعة للتدريب المُستمرّ، بخاصّة على المهارات الرقميّة سريعة التغيُّر، في بلدان مثل الدانمرك وفنلندا وإيرلندا؛ والبعض يعدّ “لعقْدٍ اجتماعيّ جديد” للمُساعدة على استمرار المُعمّرين فترة أطول في الحياة المُنتِجة والمُمتِعة؛ وهنالك “البيئة الزرقاء” التي تكون صديقة للمُعمّرين صحيّاً ونفسانيّاً وعاطفيّاً واجتماعيّاً؛

ومركز “ستانفورد للحياة المديدة”، ربّما يكون أهمّ هذه المُبادرات، وقد أَطلق فعلاً مشروعات متعدّدة لرسْمِ خريطة جديدة لحياةٍ مديدة.

السؤال دائماً أيْن نحن في البلدان العربيّة من ذلك كلّه؟ صحيح أنّ مَن هُم دون الثلاثين من العمر، ما زالوا يمثّلون أكثر من 70% من السكّان في معظم البلدان العربيّة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الكثيرين بدأوا يعيشون العمر المديد لمائة عام أو أكثر، وهؤلاء يستحقّون بعض الاهتمام أيضاً.

***

(*) كاتب ومُترجِم من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *