ومضاتٌ نورانيّة تقطرُ شَهْداً وعِطْراً في قصيدة يسـرى البيطـار “ولم أطلبْ كَـثيـراً”

Views: 951

 د. محمّد م. خطّابي* 

على الرّغم من أنني كنت قد كتبت عن هذه القصيدة الجميلة تعاليق مُوفية منذ بضع سنوات خلت، إلاّ أنّ الشّوق شدّني، والحنين جذبني إليها من جديد إمتثالاً واستجابةً لآهات وتأوّهات المطربة الرقيقة نجاة الصغيرة  في صيحاتها وصدحاتها: “ما أحلى الرجوع إليه … إليها!”، فعاودت الكتابة عنها من جديد بطريقة مَزيدة ومُنقحة، مضافاً إليها تعاليق رائعة للشاعرة  المبدعة نفسها، ولي، ولكاتب/قارئ  مُجدّ كان قد قرأ القصيدة واستمتع بها، واطّلع على ما كتبته عنها فأدلى بدلوه عنها هو الآخر، وأعني به الرّوائي الحاذق الزميل مصطفى الحمداوي، فهيّا نخوض هذه المغامرة اللغوية والابداعية المثيرة معاً …

تقول الشاعرة اللبنانية المتمّيزة يسرى البيطار في قصيدتها “ولم أطلبْ كَـثيـرا…”: “طَلبْـتُ الظّـلَّ .. لم أطلبْ كَـثيـرا/وَظِـلُّـكَ ليسَ مَلهًـى أو سَـريـرا/هو الإخـلاصُ يَمْنَـحُـني سُكـونًـا/كَوجْـهِ الأمِّ يَحْـتَضِـنُ الصّغيـرا/فَمـا لَـكَ لا تحِـنُّ على رِدائـي؟؟/تُـريـدُهُ مُـسْـتَـبـاحًـا أو قَصـيـرا/أنـا أحتـاجُ دِفـئًـا فـوقَ جسـمـي/وَلا أحـتـاجُ مـالاً أو حَــريــرا/رُجـولَـتُـكَ الوَسيمـةُ دونَ حُـبٍّ/كَمـا الأزهارُ إنْ نَـفَـتِ العَبيـرا/طَلبْـتُ الظِّـلَّ فـوقَ سماءِ روحي/لِـتَـفـرُشَ أنـتَ مَقعَـدِيَ الـوَثيـرا/نُجـومًـا لا تخـافُ مِـنَ اللَّـيـالـي/وَقَـلْـبًـا كـادَ حُـبًّــا أن يَـطـيـرا/وَزَهْرًا من عُيونِـكَ فوقَ صَدري/فَـلا عَـرشًـا تَـركْـتَ وَلا أميـرا/وَمجنـونُ الهَـوى أبهـى جُنـونًـا/إذا ما صامَ وَاسْـتَفـتى الضَّميـرا”. 

وأعود، وأقول: هذه القصيدة الرائعة تُبيّن لنا أنّ الشّعرَ لمحٌ تكفي إشارتُه، وليس بالهذر طُوّلتْ خُطبُه، مثل هذه الّلمحة الشّعرية المُوفيّة الجميلة الآسرة التي تدعو إلى الإعجاب حقاً، إنها تُعافي النّفوسَ المكلومة، وتغبط القلوبَ المعنّاة الحزينة.. إنها ومضاتٌ نورانيةٌ جوّانية جاءت فى سَلاَسَةٍ، وانسيابٍ، ورفقٍ، ورونقٍ، وبهاء، إنّها تنويعات وتريّة رخيمة متوتّرة، فوّارةٌ من ظمأ، أو نبعٌ رقراق يتفتّق من أعماق أعاميق نفس الشّاعرة العاشقة الأيّمة، الهائمُة، الولهانة، إنه شِعر يقطرُ شَهْداً وعِطْراً، ويندّ صَبَاً وصَبّاً وصَبابةً، يقطنُ فى الأعالي السّامقات، هنالك فى السّمت البعيد، جاراً للثريّا، والسِّماكِ الأعزل.

الشاعرة د. يسرى البيطار

 

تجربة فريدة

 نستأذن شاعرَتنا الرّقيقة، وأديبتنا الأنيقة، لنقوم بتجربةٍ فريدة ونرتقي بأبيات قصيدتها الطليّة سلّمَ الشّعر الطويل، من أواخر كلماتها إلى أعلاها عملاّ بإيماءة الحطيئة، فالقصيدة من الرّوعة بحيث يُمكنك قراءتها من حيث تنتهي كذلك، إنها قلادة من عقيان لا أوّل لها ولا آخر.. إنّها تكاد تذكّرنا إلى حدّ مّا، من حيث المبنى، ببيت واضع النحو العربي أبي الأسود الدُّؤلي الشّهير الذي يُقرأ من اليمين إلى اليساروالعكس، وَيَفيِ بالغرض ولا يتغيّر معناه، وهو: “مودّته تدومُ لكلّ هولٍ/ وهل كلٌّ مودّتُه تدومُ”، فإذا قُرئتْ هذه القصيدة أيضاً من حيث تنتهي (أيّ من أسفل إلى أعلى) مع تعديلات بسيطة تكون النتيجة مُبهرة، وهاك الدّليل: “ضميراً إستوفى إذا ما صَامَا، مجنونُ الهوىَ بَهِيُّ الجُنُونِ، ما تركتَ أميراً ولاعرشاً، ولا عيوناً فوق صدري ولا زَهْرَا،  قلبٌ طار حبّاً أو كاد أن يطيرا، واللّيالي لا تخافها النجومُ، وَثيرٌ مَقعدي، وفِراشٌ أنتَ لروحي، وسماءً فوق الظلّ طلبتُ، عبيرٌ لم ينفِ الأزهارَ، وحبٌّ دون الوسامة رجولةٌ، لا حريراً ولا مَالاً أحتاجُ، دِفئاً فوق جسمي كلُّ ما أحتاجُ، قصيراً ومستباحاً ردائي تريده، فهلاّ عليه حنوتَ؟؟ صغيرٌ حَضَنَه وجهُ أمِّه، إخلاصٌ يمنحني سكوناً، ليس سريراً ظلّك، ولا هو مّلهىً، أنا كثيراً ما طلبتُ.. فقط ظلَّك طلبتُ “.! 

يلاحظ القارئ الكريم أنه قد تمّ الإحتفاظ بجميع الكلمات الواردة أو المذكورة فى القصيدة على وجه التقريب، ولم يُغيَّر فى هذا النصّ الأصلي الجميل شيئاً فيها بالكاد إلاّ لماماً، وإنّما عمدتُ إلى قراءته من حيث ينتهي بضربٍ من الرّتق والفتق، فكان هذا الدّفق العليل، وهذا التداعي الجميل المتخفّين داخل القصيدة نفسها.

ولكنّي مع ذلك لن أبخسَ الشاعرَة الرقيقَة، ولا القارئَ المُجيدَ حقّهما في أن يتباهيا عن جدارةٍ، وأهليّةٍ، وأحقيّةٍ، وإستحقاق بعرض جمال هذه القصيدة وروعتها، لذا فإنّني أطَمْئِنُ الشاعرَة من جهة على سلامة هندامها وروحها، وأنصحُ القارئَ من جهةٍ أخرى أن يعود إليها ليقرأها من جديد، عن رويّةٍ، وتؤدةٍ، وهدوء وتأنٍّ، وأناة، وليستمتعَ بها على حالها كما أبدعتها قريحةُ فنّانة فذٍّة تمسك بناصية الشّعر، وتسبحُ بمهارة فى يمّه العميق، وتتسربلُ ببهاء سِحره، و تنتشي بسِرّه، وتتطيّب بعِطره، وتتسربل بشفافيته ورقّته، .هنيئاً لشاعرتنا الصّادحة، وأديبتنا الرّاجحة د. يسـرى البيطـار، وبارك الله فيها، وفي يراعها، وبورك حبرُ دواتها الرُّضَاب.

الرّوائي مصطفى الحمداوي

 

رحيقُ عطرٍ ينساب إلى الرّوح

تقول الدكتورة يسرى عن تعليقي السّابق عن هذه القصيدة:” أحببتُ قصيدتي أكثر بعدما علق عليها بهذه الرّوعة الأستاذ الكبير الدكتور محمّد محمّد خطابي، وخصوصاً عندما أشار إلى قراءتها الإبداعية من أسفلها إلى أعلاها!! شكراً لذوقه وعلمه وإبداعه”. 

الأديب والرّوائي مصطفى الحمداوي يشير في تعليق جميل عن قصيدة الشاعرة الدكتورة يسرى البيطار: “أولاً هذه القصيدة الجميلة هي رحيقُ عطرٍ ينسابُ بعذوبة إلى الرّوح، وهي حقّاً قصيدة شفافة خفيفة تغمر القارئ كظلٍّ وارف. وزادت رونقاً بقراءة الكاتب الكبير د محمّد محمّد الخطابي. إنه لأمر مدهش حقاً أن نكتشف من خلال كاتبنا الكبير هذه الجمالية الخارقة التي يطرحها أمامنا بكلّ هدوء: “إنّها تكاد تذكّرنا إلى حدّ مّا، من حيث المبنى، ببيت أبي الأسود الدُّؤلي الشّهير الذي يُقرأ من اليمين إلى اليسار والعكس، وَيَفيِ بالغرض ولا يتغيّر معناه، وهو البيت المذكور آنفاً، فإذا قُرئتْ هذه القصيدة أيضاً من حيث تنتهي (أيّ من أسفل إلى أعلى) مع تعديلات بسيطة تكون النتيجة مُبهرة، دمت رائعاً أستاذنا وكاتبنا الكبير، وتحية إعجابٍ للشّاعرة البهيّة يسرى البيطار”. 

وكانت الدكتورة الشاعرة يسرى قد تكرَّمت وردّت على هذا الإطراء الجميل بما يلي: “من هنا، على شاطئ للبحر شمال لبنان، إلى الدكتور محمّد خطابي في إسبانيا، وإلى الأديب الأستاذ مصطفى الحمداوي، تحية مع العطر والشكر، ومع التقدير والمحبة، لقراءتكم واهتمامكم وعنايتكم، ولتكرّمكم بالتعليق على قصيدتي وهو يزيدها جمالاً ويزيدني شرفاً، وأسمى آيات الشكر كذلك لهذا الموقع المتألق (Aleph-Lam ) الذي يسمح لشاعرة في البدايات بالتواصل مع الكبار من خلال الكبار.. احترامي لكم جميعاً”. 

أبو الأسود الدُّؤلي

 

كلّ إناء ينضحُ بما فيه

 وجاء ردّي عن كلمات الشاعرة المُجيدة فقلت: “الشاعرة الرّقيقة، والأديبة الأنيقة يُسْرىَ البيطار…أزجي لكِ خالصَ الشّكر، وعميقَ الإمتنان على إطرائكِ الجميل، وثنائكِ النبيل، ولا عجب، فذاك الدرّ من معدنه، وكلّ إناء يرشقُ أو ينضحُ بما فيه من كريم الشّيم والشمائل، وحُسْن السّجايا والفضائل، تالله أنا لم أكتب سوى ما أملته عليّ مشاعرى، وجاد به جَناني ويراعي بعد قراءتي، وإستماعي، وإستمتاعي بدرر شِعركِ الرّاقي الجميل، فالشّكر موصول لكِ أنتِ كذلك على إشراقة إطلالاتك البهيّة على ثبج هذا اليمّ الزّاخر، والمنبر البّاهر، والموقع الزّاهرالذي يتيح لنا بكرم، ونبل، ولطف، وأريحية المشرفين عليه، وبذوقهم الرّفيع، وحسّهم الأدبي البديع، هذا التواصل، والتقارب، والتلاقي، والتداني مع أناسٍ أصفياء ينحدون من أكرمِ جبلّةٍ، ومع مبدعين رائعين، من مختلف بقاع، وأصقاع العالم العربي المترامي الأطراف واسطة عقده، وخريدة عصره، وجُمانة عقيانه، لبنان السّاحر، هذا البلد الآسر، والصّقع النّضر الذي يحلو نطقه فى الشّفاه، ويَعْذُب لَوْكُه فى الألسن، والقاطن أبداً فى سويداء قلوبنا ومضغها، والسّاكن فى أعطاف أفئدتنا، وبين ثنايا أضلعنا، وجوارحنا، ووجداننا ..مع أعطر التحايا، وصادق الودّ. 

***

 

(*) كاتب من المغرب/ عضو الأكاديمية الإسبانية- الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *