{حِكايَةُ الشَّفَافِيَة والعُمْق} “إيليا حاوي” المُعَلِّمُ الَّذي لَمْ يَغِبْ [الحلقة الثَّالِثَة] ﴿الأستاذ المعلِّم وكاتب الرِّواية﴾

Views: 7

إلى “إيليَّا حاوي”،

الذي ما برح، في الذِّكرى

 العشرين لوفاته،

يقف، غزير العطاء، بين الكبار

 

 

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

الأستاذ المُعلِّم

أحبَّ”إيليَّا حاوي” المَسْرَحَ، فكان أستاذاً لفنونه الأدبيَّة؛ يَبذلُ حُبَّه هذا، شَهْدَ تَدريسٍ لِطلاَّب “معهد الفنون”، في “الجامعة اللَّبنانيَّة”، وطالباته. وإذا بِمُرِيديهِ، مِن هولاءِ، نخبةُ مِمَّن خرَّجَت معاهدُ الفنونِ مِن مَسْرَحِيِّين، على تَعَدُّدِ مجالاتِ عطائهم وتتوُّعه.

وكما استقرَّ”إيليَّا” شامِخاً بِمَحَبَّةِ مُريديهِ،حينَ صرفَ معظمَ العُمرِ في تدريسِ”الأدبِ العربيِّ” وفنونه وأصول البحث فيه وقواعدِ العملِ عليهِ والتَّعرُّفِ على جماليَّاتِ عطاءاته، لأجيالٍ وأجيالٍ مِن تلاميذِ المدارسِ ودُورِ المعلِّمين والمعلِّمات؛ فإنَّه تربَّع، كذلك، مَلكَ عطاءٍ معرفيٍّ وتوجيهٍ مَسْلَكيٍّ إبداعِيٍّ، على كُرسيِّ دراسةِ المسرحِ، في “الجامعة اللُّبنانيَّة”. ولَئِن تغلَّبَ الدَّارسُ المسرحيُّ، على الكاتِب المسرحيِّ، في “إيليَّا”؛ فإنَّ الرِّوائي فيه، تمكَّن مِن مجاورةِ النَّاقدِ والدَّارسِ، ومرافقتهما في رحاب التَّألُّقِ الانتاجيِّ وعطاء الذَّات الفيَّاضة .

إيليَّا حاوي المُعَلِّم

 

كاتِبُ الرِّواية

لئن بدا “إيليَّا حياته ناقداً أدبيَّا وباحِثا في شؤونِ الدَّرسِ النَّقديِّ وشجونه، فضلاً عن انغماسٍ مشهورٍ لَهُ في التَّأليفِ المَدْرَسِيِّ وتدريسِ اللُّغة والأَدب والمسرحِ، فإنَّه مالَ، في مرحلةٍ مُتأخِّرةٍ مِن مشوارِ عطائهِ، نَحوَ نَشْرِ كتابته الرِّوائِيَّةِ.

لَم تَكُن “الرِّوايةُ”، عند “إيليَّا”، مجرَّد إبداعاتٍ في القَّصِّ وبراعة في اكتناهٍ لبعضِ أنماطه واستكشاف لها، أو ابتداعٍ لبعضها وحسب؛ بل إن “الرِّواية”، عنده، فعل تجميعٍ وضمٍّ لِما تشكَّل في بالِهِ ووجدانِهِ مِن زبدة للوجود، اختبرَها عبر سنيِّ عمرِه الغنيَّةِ بالمعرفةِ وغَوْصِ الأعماقِ وشفافِيَةِ التَّعبير المُتَوهِّجَةِ بِفَرِحِ الصِّدقِ وروعةِ الفن معا. ولعلَّ “إيليَّا”، لهذا السَّبب أخَّرَ اهتمامهُ بهذا الفنِّ الأدبيِّ، حتَّى مطلع الثُّلث الأخير مِن سِنِيِّ عطائه. (insider-gaming.com)

لـ“إيليَّا”، أربع روایات: أوَّلها اِثْنتانِ ظهرتا معاً سنة ۱۹۸۲، هما “الدَّوَّامة” و”القَصر”؛ ثمَّ تلتهما”على ضفاف المستنقع”، سنة ۱۹۸۰، و”نبهان”، سنة ۱۹۸۹. وتنمازُ، هذه الأربع، جميعها، بِنَفَسٍ ملحميٍّ متوهِّجٍ، يجولُ بين الشَّخصيَّات والأحداث، ويتفجَّر عبر عيشٍ للمشاعِرِ وتفاعلها مع ما يلمُّ بها أو يُحيطُ بجوانبِ وجودها. وتتألَّق هذه الملحميَّة الرِّوائيَّةُ، شكلاً، بضخامةِ أحداثِ كلِّ واحدةٍ مِن الرِّوايات الأربع؛ وهي أحداث تنتشر أفقيَّاً، موزَّعة على شرائحَ إنسانيِّةٍ متعدِّدةٍ ومتنوِّعةٍ، عبر حقلٍ زمنيٍّ رحبٍ؛ كما تَمْتَدُّ، عموديَّاً، لتتجذَّر کشفاً عن مُخَبَّآتٍ مِن جُوَّانِيَّةِ الإنسانِ والوجودِ، تتجلَّی عبر اختلافِ زوايا الرُّؤيةِ،  ولا تتحقَّقُ سوى بتوحُّد العُمقِ. وهنا يطل “إيليَّا”، لا بكونِهِ راويةَ سردٍ وتفاصيلَ فحسب؛ بل بكونِهِ راويةَ غَوْصٍ في أعماقٍ صعبةٍ، أعماق خذلت، بعنفوانِ إنسانيَّتِها وصُدقِ هذه الإنسانِيَّةِ، كثيرين، وأشاحت وجوه إبداعاتهم عنها؛بيدَ أنَّها ظلَّت تُرَحِّبُ بـ”إيليَّا”، وتفتحُ له ما رَغِبَ فيه إحساسهُ ورؤياهُ وتعبيرهُ مِن مَكْنوناتِها وحمِيمِيَّاتِها.

 

والأمرُ، لم يقف، ههنا، عند هذا الحدِّ مع روايات “إيليَّا”، إذ إنَّها لَمْ تَتَجَلَّ كلاماً إلاَّ بشفافيَّةٍ تعبيرِيَّةٍ ساميةٍ، راقيةٍ، واقعِيَّةٍ، ناصعةٍ، لكنَّها قادرة على توصيل ما لديها لِمَن تُرْسَلُ إليهِ، ببساطةِ تعبيرٍ لا تُخفي ما يستر بعضَ ما فيهِ مِن مباشرةٍ، سموَّه الأدبيَّ وإبداعه الفنِّيَّ وعمقه الإنسانيَّ وروعته الجماليَّة. ولم يكن عجباً، مِن ثمَّ، أنْ تكونَ بعض هذه الرِّوايات، وخاصَّة “نبهان”، مسرحاً برزَ عليه “إيليَّا” شاعِرأ مِن ذلكَ الطِّرازِ العميقِ والشَّفاف في آن، فتحوَّلت صفحاتٌ عديدةٌ مِن الرِّواية، إلى صفحاتِ دیوانٍ شعريٍّ، يستأهلُ دراسةً بحدِّ ذاته .

ممَّا لاشكَّ فيه، أنَّ”إيليَّا حاوي، النَّاقِدُ وأستاذُ الأدبِ والمسرحِ، أكثر انتشاراً مِن “إيليَّا” الرِّوائيِّ والشَّاعر. وممَّا لا شكَّ فيهِ، أنَّ لهذا الأمر أسبابه وأبعاده، التي مِن أبرزِها أنَّ”إيليَّا حاوي” قد اهتمَّ، منذ بداية مشوار عطائهِ، بِنَشْرِ دراساته النَّقديَّة وأعمالِهِ التَّحليليَّةِ للأدبِ، فضلاً عن امتهانة التَّدريسِ، في مجاليه التَّعليمييَّنِ، الثَّانوي والجامعي. أمَّا “إيليَّا”، الرِّوائي والشَّاعر، فلم يُظهرُ ما عندهُ سوى في مرحلةٍ اتَّسمت بأمرينِ؛ أوَّلهما، أنَّها كانت مرحلة اشتداد أوارِ الاقتتالِ الدَّامي في لبنان، بين سبعينات القرن العشرين وتسعيناته، وقد إِتَّصَفَت بضُعفِ التَّواصل الثَّقافيِّ والأدبيِّ، لا بين لبنان والوطن العربي والعالم وحسب، بل بين المناطق اللُّبنانيَّةِ واللُّبنانيين؛ وثانيهما، أنَّ غَلَبَة صفة “النَّاقد” و”أستاذ الأدب والمسرح”، على “إيليَّا”، لمْ تترك مجالاً لانتشارِ الرِّوائيِّ منه. ويبقى سببٌ آخر، أنَّ هذه الرِّوايات، وما فيها مِن شِعْرٍ، لَمْ تجد بعدُ طريقها إلى النَّشر المُوَسَّعِ، الذي شهدته أعمالُ “إيليَّا” النَّقديَّة ودراساته الأدبيَّة، لتثبتَ بدورها تكاملها الفَذْ مع سائر أعمال “إيليَّا حاوي”، عبر العُمقِ التَّحليليّ، ومن خلالِ الشَّفافية المعبِّرة، عن هذا العمق.

إيليَّا حاوي بريشة ابنته الدكتورة ليلى حاوي شمعون

 

لئن كان لا مفرَّ من التَّسليم بمبدأ الموتِ والحياةِ في هذه الدُّنيا؛ فلا مناصَ، أمام المرء، مِن القول إنَّ”إيليَّا حاوي”، الذي أنهى مشواره في عوالِمِ المعرفة والتَّحليل والابداع، عبر العمق والشَّفافية، وبدأ رحلةً عميقةً في تراب الأرض، نهاية سنة ۲۰۰۰، فإنَّهُ ما برح ينبضُ حياةً فاعلةً ومثمرةً في كتاباته، بل ما فتئَ ما يعمله لمريديه بها، مِن غوصٍ في الفِكر الإنسانيِّ والإبداعِ الجماليِّ في رحاب ما ألَّف وكتب في مجالات الفنون الأدبيَّة.

“إيليَّا حاوي”، دعوةٌ إلى تَبَصُّرٍ مستمرٍّ، بعمقِ تجربةِ عيشٍ وفكرٍ، أشرقت على هذا العالَم الإنسانيِّ، في “شُوَيْرِ” لبنان؛ وهي، كذلك، دعوة مستمرَّة إلى الغرفِ مِن زادٍ ثقافيٍّ سِحريِّ ومعرفيِّ، دائمُ الثَّمر؛ زَرَعَهُ”إيليَّا”، بعمقٍ وشفافيةِ، في كُتبه ومؤلَّفاته؛ وتركه للنَّاس، شفافيةَ عطاءٍ مُبْدِعٍ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *