في التّجريب الصّحفي(8)

Views: 380

محمد خريّف*

أجوب متاهات التجريب الصّحفيّ مشرفا على مرافئ الرعب الآمن غير مبال بمخاطر السفر إلى بعيد،وأنا أشق غمام سحب أتسلقها ممتطيا جناح الشمس تتلقفني رسائل تدفعني إلى الإقدام فهذا حسن عجمي من لبنان وصنع الله إبراهيم من مصر وأحمد بن جلّون من المغرب إلى جانب سعيد وبوكرامي. حسن عجمي أجده شابا متحمسا لكتاباتي فكان التعاون معه ومع غيره متكافئا مثمرا متميّزا،  هوغمرني بتواضعه ومعرفته المنفتحة على الجديد ولاسيما في الولايات المتحدة الأميريكية، فقد كان لي شرف حظوة بالسبق إلى تلقي أحدث إصدارته في الشعر والنقد في نطاق ما يعرف ب”السوبر حداثة” و”السوبر تخلف” والسّوبر مضافة إلى مجالات من المعرفة مختلفة.

كان حسن عجمي ولا يزال عندي وجها من الوجوه الثقافية العربية الحديثة التي تستجيب لمواصفات كنت ولا أزال أهفو إليها متشوقا إلى الطريف من كتابتها. فحسن عجمي يبدأ معك رحلة التصوّف الفكريّ الملهم من أجل البحث اللاّمنتهي عن الطريف المضيء في ما يقرأه  من كتابتك وكتابات غيرك، ولا يضن عليك بما يستحقه عملك من كتابة على كتابة -وان كان ما يفعله مع نصك لا يرضي الكثيرين من ألصحافيين الذين تعودوا على مدح الأسماء اللامعة دون الاهتمام بالأسماء المغمورة غير المعروفة- وهي خصلة من خصال هذا الشاب اللبناني المقدام القادم  من العباسيّة في طريقه إلى الولايات المتحدة الأميركية، وقد كان لي شرف الكاتب المتواضع الذي وجد في هذا الرفيق النادر ما بخط يده فلعلّ  كتاباتي المتواضعة ترتفع بفعل القراءة الكاتبة الجادّة  عندهإلى مصاف كتابات “السوبر حداثة” و”السوبر مستقبلية”(انظر على سبيل المثال كتاب “السوبر حداثة” لحسن عجمي وغيره من مقدمات “رخامة الاسفنج2005″ و”سوسن الفينقا2017″ و”سلال القلوب2019” و”جمّة الدرع2019 “.

الكاتب حسن عجمي

 

مشروع التجريب الصحفي المختلف لا يمكن أن يتقدّم خطوة نحو الانجاز غير المكتمل دون تعاون فعليّ مع كاتب أو كتاب آخرين أمثال الكاتب حسن عجمي في حال التجربة التي لم أخضها بمفردي في الواقع فهي الكتابة المفردة الجمع قد ساهم  فيهاعدد مهم من الكتاب العرب والأجانب بالسلب والإيجاب، بالنقد والصمت،بالرفض والقبول،ومن الدار البيضاء يكتب القصاص والناقد المغربي سعيد بوكرامي صاحب “أجراس الثقافية” تقديما لكتابي “زغب الاصداف2007) كما يكتب الدكتور المغربي عبد العاطي الزّياني بدوره تقديما ل”سوسن الفينقا2017اا”.

بهذه المساهمات الثمينة يخرج الصحفي عندي من بوتقة العمل الفردي المنغلق  المتوكّل على نبوّة الذات يلهمها شياطين الشعراء يتبعهم الغاوون في متاهات أوهام الصدفة وسراديبها، يغذيها القول السائد بقدرة الموهبة الرّبّانية على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل وليس للجهل أن يبدع غير الجهل ولا إبداع بلا علم ولا معرفة ولا فلسفة بمفهومها الحديث دون تطبّع بطباع التفلسف.

كان هاجس التعلق بالتجريب الصّحفيّ المختلف غالبا على اهتماماتي في تلك الفترة الدقيقة وزاد ولعي بالتمرّد والمتمرّدين وهم من الرّوائيين رافضي الجوائز الأدبيّة أمثال صنع الله إبراهيم وقد أغرتني “اللجنة” بقراءتها واكتشفت أن صنع الله إبراهيم الرّوائيّ لا يختلف في تواضعه واشتراكيته عن صنع الله إبراهيم الإنسان وقد تفضل بقبول هديتي والرد عليها برسالة بخط يده أعتزّ بها وقد لخص رأيه في كتابي”استعارة الاستعارة” و” “حليب العليق” بقوله :” أشكرك على إرسال كتابيك* اللذين كانا مفاجأة جميلة. فقد استمتعت بدراساتك النقدية اللماحة وبجرأتك  التجريبية في الإبداع والتي تظهر عليها آثار الاهتمامات النقدية بكل ما في ذلك من ايجابيات مؤكدة  وبعض السلبيات.” من رسالة بعث بها إلي من القاهرة بتاريخ 18/3/1996.

الروائي المصري صنع الله ابراهيم

 

كما كتب إلي الأستاذ احمد بن جلون من الرباط بتاريخ 30 /4/ 2001 يقول :”فكما سبق  ان اخبرتك بان تعليقي على مسك الحنظل ” شكلا ومضمونا ، بعثت به  إلى إحدى الصحف المغربية – ولم أطلعك  على أني بعثت به  أيضا  إلى احدي الصحف التونسية  عن طريق الأخ محمد عبد اللطيف- قي جريدة “الميثاق” المغربية نشرته البارحة وأوافيك برفقته.        

أحد أصدقائي  هنا فقال :” إنّ في التعليق جانبين :أحدهما لك، والآخر عليك”-رغبت في أن يكون  أقرب مايمكن  من الموضوعية ، ولاأدري هل أصبت أم لا. فالحكم موكول لغيري ولن يضرني في شيء- بقي أن أقول في هذا الصدد ، أن ظهر غلاف الكتاب يحمل  كلمة، وهي تعني ” كلام أو خطاب مبهم  وهراء لافائدة فيه “. وبهذه اللفظة الفرنسية  تفتح الأبواب لأقدح التعاليق  على إبداع  مؤلف من طينتك . أرجو أن تجتنب مستقبلا  مثل هذه  الزلّة- إن صح التعبير”Galimatias في “قيلولة البرَد”، أنت كاتب آخر  مخالف لكاتب ” مسك الحنظل “قريب من المحسوسات اليومية الملتصقة بالواقع ،  ورأيت في هذه المجموعة ما يدخل في صنف  المجموعة التي ألفتها  تحت عنوان ” أشواق وأشواك “، خلال الثمانينات وقد نفذت “.

 

هذا وان كنت لا اعرف إن رددت على صديقي الراحل أحمد بنجلّون في ذلك الوقت، فأنا لا اذكر الآن هنا لآأتذكر شيئا من ذلك. ولعلّ ما يخشاه علي من حصول زلّة في ما يخص عبارة قليماتجالا مبرّر له وأنا من وضعها قصدا حيث لم أخش على نفسي لائمة لائم من وضع اللفظة فهي بوعي مني حاصل لي بعد تأمّل ورويّة في حال الكتابة التي تدّعي الإفادة الاسنادية تتوهم حوزالوضوحوالبيان ومن هنا تلوح بوادر الإحساس المعرفي  بقوة الاختلاف المتمثلة في الاعتراف المرّ بأنّ ما نصبو إليه من وراء التجريب الأدبي لن نطل الا  على كتابة الهراء والكلام الذي لافائدة فيه وهو الخطاب الذي لافائدة منه وتلك وصفة جديدة في الإبداع لم تكن في حسبان الذائقة الجمالية الأدبية عند العرب التي مازالت تعتبر خطاب القرب من وهم المحسوسات اليوميّة كما للراحل العزيز أحمد بنجلون في “أشواق وأشواك ” و” قيلولة البرد” ولهذا السبب  أعتز برسالة الأستاذ أحمد بنجلون المثقف المغربيّ الحريص على قراءة ما يصله مني رغم عناء المرض فيكتب عنه بذائقته  فتلامس ملاحظاته تخوم الاختلاف  الأدبي في تجربتي فتفتح باب النقاش بدل أن توصده لكن وبعد سنوات من الصمت هاهو أحمد بنجلون  نفسه يذكر في رسالة بعث بها إلي من الرباط كالعادة  في 26 مارس 2009 يقول فيها:” ألف شكر على تذكرك اسمي  بعد سنوات من الصمت كنت أتذكر كتابك وأسلوبك الفريد  الذي يطبعها رغم  أنف النّقّاد  الذين لا يشاطرونك هواتك (هكذا بخط اليد) بل إبداعك السردي . سرت مرة على نهج ” مسك الحنظل ”  مستعرضا عددا من المفارقات خرجت منها  كما شئت وأنت تباري أبطالك  بعصا ذات حدين  متباينين  قد لا يدرك مقاصد  إلا القليل من القراء”.

 

هذا قال أحمد بنجلون في رسالة أخرى بعث بها إلي في 18 ماي:2009″ ورخامتك  يجدها القاريء في كل الفضول  تتغير  مادّتها  بتغير مجرى السرد، ذلك ما يجعل البحث عن الوحدة  ليس في متناول القارئ العادي الذي يتخطى أرضيتك  الرّوائية  بكثير من الحذر  خشية الانزلاق  وكأنه على شفا جُرف هارٍ-“

يمثل أحمد بنجلون في نظري الجماليّة السّردية العربيّة القائمة على تبني الكلام المفيد كلام البيان في مقابل جرأته في تحدّ مؤقّت لقناعاته الفكريّية  على قراءة لتجربة أخرى لها جماليتها المختلفة التي قد تزعزع بعضا من صرامة تلك القناعات بما تدعيه والكتابة ادّعاءوتعمّد الزّلل بتبني اللغو والتمادي فيه دون حذر من تهمة الوقوع في المحظور،يحرص بنجلون على تحاشي الوقوع فيه فينصح بعدم العودة مستقبلا إلى التنصيص عليه في غلاف “مسك الحنظل” وهنا يتجلى وجه المفارقة بين موقفين مختلفين من الكتابة –فماهو مجلبة للعار عند بنجلون  هوعلامة إبداع عندي وما عبارة قاليماتجا اللاّطينية سوى قرينة مفادها أن خطاب البيان رغم وهم الوضوح وإعلان النوايا الطيبة في مقامات الإيهام بالتعبير في نصوص الحواشي لم يكن لينتهي إلا الى كلام فارغ لا معنى له شانه شأن الرواية الكاذبة في “اسم الوردة” لأامبرتو أيكو.”

 

ولعل التحول من أسلوب السرد في قيلولة البرَد(1998)الذي يراه أحمد بنجلون شبيها بمجموعته القصصية” أشواق و أشواك” لم يكن اعتباطيا ولا هو من محض الصدفة بل هو نتيجة وعي معرفيّ عاصف برواسب ما يبقى فيّ عنوة من توابع الخطاب الروائي العربيّ التقليديّ وزابعه، فأطل مرتجفا على بؤس رُؤى ثقافية تقليديّة من شأنها أن تجعل القارئ العادي مقياسا لكل عمل فنّي ،وتلك مصيبة الإبداع ذي الحركة الدائريّة لا اللولبيّة، وبين هذا وذاك مسافات بين أحقاب من الاتصال والانفصال يجعل من الصعب على القاريء العربي المعاصر المثقل بأسفار ثقافة اقتفاء الأثر والبعرة تدل على البعير أن يتفاعل معها بالسلب أو الإيجاب ولا سبيل أمامه غير رفض مايراه مختلفا مع مزاجه المسطّح وأيّ فضل للمبدع مالم يخرج عن المألوف المقبول عند القاريْ العادي ولعل هاجس رواج سوق نشر الكتب والخوف من كسادها يبرر حاجة الناقد التقليدي وهوسه  بتوفر الجمهور العريض ومن علاماته نفاد النسخ المطبوعة وتلك مواصفات تجعل من حوافز الإقبال الخطاب الأدبيّ العربي من عدمه ما يشبه حوافز الإقبال من عدمه على من يؤمّ المصلين في خطبة يوم الجمعة في المساجد،(والله يكثر من أمة محمّد… )، ولعل هذا الشغف بالكثرة دون القلة  يجعل مقياس العدد أي الكمّ يفوق أو  يطغى على مقياس الكيف فيصير بذلك السرد شبيها بسلعة سوق لابد لها من رواج ولو على حساب القيمة الفنية التي لا تكون إلا بركوب مخاطر الاختلاف السيميائيّ المترقي محوّلا متحوّلا بالأنا الهنا الآن ومابعدها

 (…يتبع)

***

(*) كاتب من تونس

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *