الأخبار .. بين التقوُّل والتغوُّل والتعقُّل

Views: 458

 ماجد الدرويش

الخبر عند علماء اللغة هو ما يحتمل الصدق أو الكذب، وبالتالي فإن أي خبر يرد ينبغي على المتلقي أن يتعامل معه من هذا المنطلق. فلا يجزم بأحد الوجهين إلا ببينة قاطعة. وهذا توجيه نبوي شريف حيث يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكل ما سمع( .

والكذب هنا ليس بالضرورة أن يكون تعمد الافتراء على الناس، وإنما قد يكون خطأ في السمع أو الفهم، وعندما قيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما يقولان كذا، وكانت ترى غيره، قالت: «إنكم لا تحدِّثوني عن كاذبَيْن ولا متهمَيْن، ولكن السمع يخطئ».

فلا عمر ولا ابنه عبد الله ممن يتهم في نقل الأخبار، ولكن قد يقع للثقة أنه سمع الكلام خطأ، أو فهمه على طريقة تخالف ما جاء الكلام له، وهذا أيضا له باب عندنا في علم الحديث اسمه (الرواية بالمعنى) فقد وضع العلماء لها شروطا كثيرة، والهدف الأساس عدم تقويل الناس ما لم يقولوه. لأن السامع لو تسرع ونقل ما فهم أو سمع خطأ فإنه حينها يقوِّل الآخرين ما لم يقولوه ويسبب بفتنة قد تصل إلى حد لا تحمد عقباه، لذلك كان الواجب على من سمع خبرا أن يتثبت منه قبل نقله، وبخاصة عندما تكون هناك خصومات وعداوات بين المتخاصمين، وفتن، فحينها قد تشعل الأخبار غير الصحيحة حربا لا تحمد عقباها.

وفي مثل ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. إذ إنه عند الخصومة يكثر أهل الفتنة الذين يتبرعون بنقل الأخبار الكاذبة أو بتضخيم الأخبار ونقلها على غير وجهها إما تقربا إلى أحد الخصمين، أو سعيا في تعميق هوة الخلاف بين المتخاصمَين. ولذلك قيل: آفة الأخبار نقلتها.

وللأسف هذه طبيعة في البشر قديمة، فكم افترى أناس على الله سبحانه وتعالى، وكم أفترى أناس على الأنبياء والمرسلين، وكم افترى أناس على أهل الصلاح والعلم والدين، وكتب التاريخ وتراجم الأعلام مليئة بأمثلة على ذلك، حتى وصل الأمر إلى علم الرجال والجرح والتعديل الذي يعتبر من أهم العلوم الحافظة للسنة النبوية الشريفة وبيان صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، والسبب الأساس الذي كان وراء ابتكار علمائنا لهذا العلم هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكذب على الصحابة الكرام. فكان لا بد من وضع موازين وقواعد تعرض عليها الأخبار حتى لا ينسب إلى أهل الشرف والعلم ما لم يقولوه…

ومن أهم هذه القواعد النظر في دوافع القائل وانتماءاته السياسية والعقدية، وفي ما بينه وبين المنقول عنه الخبر من خلاف أو وفاق، لذلك قالوا: (جرح الأقران لا يُقبل)، والأقران هم المتعاصرون في الزمن، المتشاركون في العمل، فهؤلاء غالبا تنشأ عندهم عداوة غير مبررة لبعضهم البعض بسبب التنافس على المواقع والمناصب، والعامة تطلق عليها (عداوة كار)، فتتحول السياسة في عرف هؤلاء المتنافسين إلى استئثار بالمناصب ومراكز القرار، بدل أن تكون حسن التدبير والتسيير للأمور، ورحم الله تعالى الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث، سفيان بن سعيد الثوري، المتوفى سنة (150 هـ): « مَا رَأَيتُ الزُّهدَ فِي شَيْءٍ أَقلَّ مِنْهُ فِي الرِّئَاسَةِ، تَرَى الرَّجُلَ يَزْهَدُ فِي الـمَطْعَمِ وَالـمَشْرَبِ وَالـمَالِ وَالثِّيَابِ، فَإِنْ نُوزِعَ الرِّئَاسَةَ حَامَى عَلَيْهَا، وَعَادَى».

ونحن اليوم نشهد صنوفا من التنافس غير الشريف الذي يصاحبه حملات من التقوُّل والافتراء. وما كان لهذه الأقوال أن تجد لها إلى أسماع الناس سبيلا لو اتُّبعت القواعد الشرعية في تلقي الأخبار ونشرها، لكنه الهوى وحب التقرب إلى أصحاب السلطة والمال، يجعل البعض يسارع إلى تلقي مثل هذه الأخبار ونشرها، وربما تطوع في التزود عليها وتحميلها ما لا تحتمل، تقربا إلى فلان، أو دفاعا عن علان، وهكذا يتحول المجتمع إلى ساحة صراع غير شريف، تسود فيه الأخلاق الذميمة من شتائم واتهامات متبادلة، وتسخير لأقلام مدفوعة الأتعاب، ووسائل إعلامية خاصة وعامة، الأمر الذي يزرع العداوة والبغضاء بين مكونات المجتمع، بل وقد يتولد عن الأمر صراع قد يصل إلى حد التطاول الجسدي بكل أنواعه، فنصبح أما (تغوُّل) للأتباع على بعضهم البعض تنعكس سلبياته على الحياة العامة فتحولها إلى جحيم..

وبين التقوّل في الأخبار والتغوُّل في التعامل معها، يقف المتعقلون مشدوهون أمام هذا الكم الهائل من الانحدار الأخلاقي الذي بات يسيطر على الحياة العامة، بل أكثر من ذلك قد لا يجرؤ أحدهم على نصيحة الـمُتقوِّلين أو الـمُتغوِّلين حتى لا يناله منهم أذى، لأن كثيرًا من هؤلاء لا يراعون حرمة لعقل، ولا لدين، ولا لكبير، ولا يرحمون صغيرا، وإلا ما تجرؤوا على بث تلك الأراجيف.

بل أكثر من ذلك، حتى لو كان الكلام صحيحا، وكان نقله يسبب فتنةً، فنحن مأذون لنا شرعًا أن ننفي الخبر حرصا على الإصلاح بين الناس، كما في الحديث الصحيح: (لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)، فمع معرفته بما قيل من سوء، إلا أنه إذا نفاه بهدف الإصلاح بين المتخاصمين، فهو ليس بكذاب، بل هو مأجور على عمله هذا، حتى إن الإمام البخاري وضع له بابا مستقلا أسماه: «باب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ»، فما بالكم بمن يفبرك الأخبار الكاذبة وينشرها للإفساد بين الناس ولتأليبهم على بعضهم البعض؟

أما الواجب عند تلقي هذه الأخبار فهو التريث وعدم التسرع، والتثبت من قائليها، وسؤالهم عن قولهم، حينها إما أن يكون فعلا قاله، أو تُقُوِّل عليه، أو حُرِّف عن مقصده، فيتم تدارك الأمر ابتداءً، وتنتهي القضية، ونحافظ على أمن المجتمع الفكري والأخلاقي والاجتماعي.

إنها أبسط قواعد تلقي الأخبار، وأبسط مواقف العقلاء، ومع ذلك فقلَّ أن نجد من يتبعها، أو من يحرص على الإصلاح بين الناس.

ومع غياب هذه القواعد الأخلاقية يبقى المجتمع رهينة لأصحاب النفوس المريضة والألسن العريضة الذين يتلذذون في الولوغ بأعراض الناس، فلا القانون يطبق عليهم، ولا الأمن يقوم بدوره لحفظ الكرامات، لأن الأمن منشغل بحفظ البلاد من الإرهاب العسكري، لذلك لم يجهز نفسه لمواجهة الإرهاب الفكري والنفسي الذي يمارسه المتقوِّلون والمتغوِّلون. كما أنه لا يوجد رادع من دين أو خلق .. وصدق من قال:

وإذا أصيب القومُ في أخلاقهمُ      

فأقم عليهم مأتما وعويلا

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *