الراديو وإبرة موجات العمر

Views: 691

د. جان توما

أذكره، في الستينيات، حيث لم يكن بإمكانك زيارته إلّا بعد الرابعة بعد الظهر، إذ تكون نشرة أخبار لندن B.B.C. قد انتهت مع التحليلات المرافقة. كان يجلس على كرسيه الهزّاز،  فيما الراديو قربه مزنّرًا بمغيطة سميكة ملوّنة حفاظًا على ما تبقّى منه.

والطريف أنّ الزيارة يجب أن تبدأ أوّلا بتقرير مختصر يقدّمه لك عن أحداث اليوم والتطوّرات الأخيرة، وإياك أن تلهى بأمر، إذ عليك أن تبدي انتباهك وإعجابك وتقديرك وموافقتك.

كان يُتعبني بعض الأصدقاء الذين يطرحون عليك في مجرى حديثهم سؤالًا لتجيب، وبناء على جوابك يدخلك المتكلّم في جولة جديدة، فنصحني أحدهم بالثناء وبالموافقة المسبقة على ما يقوله المتكلّم، فراح مطرح السؤال، وضاع مكان المداخلة،.

  من جمالات الراديو انك تُنطقه أو تُسكته حسب مزاجك. لكن آلات الراديو اليوم هشّة، إذ هجرته إبرة الدوران على الموجات وباتت مشلولة، وحتى تاريخه لم أقع على راديو أفرح بتحريك إبرته بحثًا عن موجة وما شابه.

راح الكرسي الهزّاز، وراح من كان يستلقي عليه، تداخلت موجات الراديو المتوالدة،  وبقيت إذاعة لندن B.B.C. تسأل عن المستمعين الذين انصرفوا عن ” الأذن التي تعشق قبل العين أحيانا” إلى تثبيت هويّة العين المدقّقة بالشاشة  والمأخوذة بالألوان وبالصورة الزاهية.

مضى زمن الراديو إلى اندثار، والكرسيّ الهزّاز الذي حلم به المتقاعد أخذته رياح العمر المتقلّب، في زمن صادروا منه فرح التقاعد وراحة البال، واضطر المتقاعد فيه إلى البحث عن عمل، كما لو كان شابًا ولكن في زمن راحته وشيخوخته.  صار وقت التقاعد أشبه بالكرسي الهزّاز؛ ثابتًا ولكن على اضطراب وتوتّر، على الرغم من هدوئه وروتين إيقاعه وصمت حركته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *