من بريد الذّاكرة: “لبنان، أين الطائفية؟” بقلم الأديبة اللبنانية مي مرّ

Views: 186

محمد نعيم بربر

هناك الكثير من الذّكريات الجميلة الخالدة في ذاكرتي وفي حياتي، خاصة تلك التي شهدتُها وعشتُها في دار أبي رحمه الله، في بلدة جون، حيث كان منزلنا ملتقىً لكبار رجال الفكر والأدب والسياسة والدين في لبنان. وكنت ضنينًا طوال تلك السنين الماضية بنشرها، إلاّ بعد توثيقها وجمعها في كتاب. وحيث إنني ما زلت أعمل على إعداد هذا الكتاب ولم أكمل بعد توثيق بعض مواده، خاصة المُستجدّ منها، بسبب عملي وانشغالي في الكتابة والتأليف والتحقيق والتدقيق، فقد ارتأيتُ استحضار بعض تلك الذّكريات النّادرة وذات الدّلالة المتميزة مع الكبار ممن عرفتهم، والتي فيها من الحكمة والمعرفة والوطنية ما نستفيد ونتعظ به، خاصة لِمَا يشهده الوطن اليوم ويمرّ به، من أزمات ومشاكل وكوارث بسبب الفساد والتنافس والتقاتل من أجل المراكز والمناصب والمحاصصة الطائفية والمذهبية بعيدًا عن الإنتماء الحقيقي للوطن وتطلعات الناس لما يعنيه لهم الوطن والمواطنة من أمن وأمان وقوة وقيم ومبادىء وعيش كريم وعدالة إجتماعية وشراكة حقيقية، تَصُونه من الفقر والعَوَز والمرض والجهل وغير ذلك من الآفات والمصائب.

نعيم بربر بالقنباز مع النرجيلة أمام مدخل بيته، وبالطقم السفاري في ساحة بلدة جون

 

لذلك أستحضر اليوم هذه المقالة من بريد الذّكريات، ( بقلم الأديبة اللّبنانية السيدة مي مرّ)، والتي نُشِرَتْ في جريدة ” الجريدة ” اللّبنانية سنة 1970 ميلادية، بعد زيارة الشاعر الكبير الأستاذ سعيد عقل، ترافقه الأديبة السيدة مي مرّ وزوجها الأستاذ ألفرد مرّ، إلى منزل والدي أبي محمد نعيم بربر في بلدة جون، والتي تحمل العنوان التالي:

لبنان، أين الطائفية؟

” كُنَّا عائدين من دير المخلص برفقة سعيد عقل، عندما اعترض طريقنا رجل وسيم الطلعة وصرخ: “سعيد بك، سعيد بك”! فأوقف زوجي السيارة يستفسر ما الخبر.

ـــ “سعيد بك ” قال الرجل، ( وكان يحمل نارجيلة أقصر منه بقليل، زيّنها بالورود المتنوعة حول التنباك المعدّ للتدخين)، أنا هنا منذ ساعات. لن تمرّ في جون، لا لن تمرّ وحياة عينيك، ما لم يتشرف البيت بمرورك، ما لم تتبارك الدار منك. وعرف “سعيد بك” الرجل، هكذا يعمل قال، كلما التقاني في بيروت. فترجّل وابتسم له مصافحًا. ونزلنا واتجهنا إلى بيت نعيم بربر، برفقة أبنائه الثلاثة محمد وعدنان وأكرم.

وأول ما لَفَتَ نظرنا في بيت أبي محمد، عدد من النّرجيلات الكبيرة المزينة كلّها بالورود. وكان شذا زهر اللّيمون يملأ الغرفة مخطلتًا بعطور البنفسج والورْد والقَرنفل. ووسط الغرفة كانت عدّة نارجيلات (هذه هواية أبي محمد)، على صينيّاتها كلّها باقات ورْد طبيعية أو إصطناعية. فبدتْ لنا الغرفة كلّها نزهة في باقة ورْد، وبدأ أبو محمد حديثه، قال:

ـــ “هذه النرجيلة للسيد موسى الصدر، لا يمسّها أحد سواه. وهذه الأُخرى هي لك، لنْ يمسّها أحد سواك”.

نعيم بربر

 

 وشدّ ما كانت خَيْبتُه عندما عرف أنّ “سعيد بك” لا يدخّن النّرجيلة! ولكن وجه أبي محمد لا يعرف العبوس، فتناسى النّرجيلة التي انتظرت معه طويلاً على الطريق، وتقدّم من “سعيد بك” وقال:

ـــ ما أعظم هذا اليوم! سيحجّ الناس إلى داري يومًا يتبرَّكون. أنظرْ على الجدار صورة السّيد موسى، أنا أنتظر أنْ تصير رئيسًا للجمهورية لأضع صورتك بالقرب منها. لا، لا “مش صحيح”، صورتك في قلبنا، في دمنا، في كلّ ترابة من ترابات أرضنا. بربك إِبعثْ إليّ بصورة لك لأضعها هنا قرب صورة السيّد موسى، واكتبْ لي شيئاً بخط يدك” لأبروزه “قرب” الآيات الكريمة” على هذا الجدار.

ـــ وكان “سعيد بك” كلّما حاول الجواب لمْ يترك له أبو محمد المجال: أنت فوق، فوق! أنت لبنان! أنت أعظم ما ولدت النساء في هذا العصر. (أستغفر الله، أستغفر سيّدنا محمد). من أين للبنان أن يأتي بمثلك يا أعظم الرجال! كلّ ألف سنة؟ كلّ ألفيّ سنة؟ معقول! أقل من هذا، لا. وكلّما هدّد لبنان خطرٌ أقول: “سعيد بك” على أرض لبنان فلن يُمسّ بأذى!

“لبنان، ما لبنان؟ حبّة من تراباتو بتسوى عندي الجَنّة”… ويعود فيصحّح كأنّما سبقتْ عاطفته العقل: “أستغفر الله، أستغفر سيّدنا محمد، كلّ ترابة من تراباتو هي عندي بمثابة ترابة من الجَنّة”.

نعيم بربر مع اشباله الثلاثة، وبينهم نجله (الشاعر والمربي) محمد

 

ويتابع أبو محمد:

“أنا، يوم أعلنوا أنّ لبنان في خطر، ذهبت ومعي هؤلاء الشُّبان (ويدلّ على أبنائه الثلاثة). لا، ذهبت وورائي هؤلاء الشُّبان إلى الحازمية وقلتُ لهم: أتطوّع أنا أولاً ومن بعدي سجّلوا الأولاد”. وكنت جالسة بالقرب من أبي محمد، عندما وصل إلى قصة التَّطوّع، فالتفتُّ إليه وقلت له: “يا أبا محمد، ألمْ يُرَشِّحْك أحدٌ، بَعْد، لوزارة الدفاع اللّبنانية؟ “فأجاب: “أنا أميٌّ، يا سيدتي، أيْ إنني أبْصُم. ولكنْ، أترين هذا الرجل، (وعاد يدلّ على سعيد عقل)، أنا لو كنت ليس فقط أميًّا، بل أعمى وأبكم وأصمّ ومقعدًا، لكنت بالإصبع أفتش عنه كلّ الدنيا، ولكان إصبعي، بعد أنْ يطوف العالم كلّه، (يَحُورُ ويَدُورُ)، ثم يعود، دون أنْ أدلّه على الطريق ويحطّ عند هذا الرجل. ولست وحدي يا سيدتي، بل كلّ مَنْ عرفه، أو قرأ له أو سمع عنه يقول ما قلته. إسألي صخور لبنان، ترابات لبنان، آخر ضيعة من الجنوب إلى الشّمال، إلى الشّرق إلى الغرب، تعرفين ما له في قلوب كلّ من لفظ اسم لبنان ” أجلْ، غيّر أبو محمد سَيْرَ الحديث. طبعًا، ظننِّي أمزح، فأعدتُ الكرّة: “أنا أرشّحك لوزارة الدفاع، يا أبا محمد. لا، لا، ما أنت بأميّ. فالأميّة بمعناها الماديّ هي جَهْلُ القراءة والكتابة. (https://chacc.co.uk/) ولكن الأميّة الحقّة هي أميّة العقل والرّوح، هي أميّة المحبة. وأنا ما عرفت كثيرين يحبون مثلك يا أبا محمد. قلْ لي مَنْ مِنْ سياسيّينا تطوّع مثلك يوم دقّ ناقوسُ الخَطَر؟ وساقَ معه إلى المجزرة أبناءه، كلّ أبنائه؟ حتّى نحن، (ونحن لا حبّ لنا بعد الله كلبنان)، حتّى نحن يا أبا محمد لمْ نتطوّع. أجلْ، أنا أرشّحك لوزارة الدفاع “.

 وتابع الرجل كأنّه لمْ يَسْمعْ: – ولكنّهم (يعني أبناءه) يقرؤون لي كلّ شيء. مكتبة محمد كلّفتني عشرة آلاف ليرة. وفكرتُ: بيتُ أبي محمد ليس قصرًا، وما أسْتَضِيعُ بالكتب عشرة آلاف ليرة! وقابلتُه مرّةً أُخرى بسياسيّينا: أميّو ثقافة هُمْ، وأميّو محبة، هؤلاء الذين ما أنفقوا يومًا على الثقافة والعلم شيئًا. هؤلاء الذين ما أحبوا من لبنان إلّا ما يملأ جيوبهم ويُرَكِّزهم على كراسي الحُكم.

جانب من مكتبة البيت

 

وفكرتُ أنَّ أبا محمد يَصلحُ أيضًا لأنْ يكونَ وزيرًا للتّربية. وكان أبو محمد يحكي ويحكي ويزيد:

– “محمد، يقرأ لي سعيد عقل. نحن نشتري (الجريدة) لنقرأ سعيد عقل. ونقرأ كلّ كلمة يكتبها. محمد، معجب بشعر سعيد عقل. وهو يكتب شعرًا ولا يزال في المدرسة. ولكن شعره سيكون جميلاً”. وطلبنا إلى محمد أنْ يُسْمِعَنا بعضًا من شعره، فأسْمعنا مقطوعات، منها واحدة على “الرّاهِبَة” تُنْبِئُ بأنّ محمدًا سيكون يومًا من رِفَاقِ الشّعر المُفضَّلين.

وفكرتُ في نفسي مَرّةً أُخرى، قلتُ: لمْ أقرأ لِشَاعِرٍ من الذين يدّعون التديّن عندنا قصيدة على راهبة، قصيدة تقرّب الروح من الله، وتضفي على الأشياء شفافية النّعمة. محمد وحده يا ترى شَعَرَ بعظمة ملاك البشرية، بالّتي تترك كلَ ما لها وكلَ ما هي لتكون لله وللآخرين؟ لا، ونجيب جمال الدين، ليلة أمسيته الشعرية في قاعة محاضرات وزارة التربية، تكلم بحنان على ليلة بعينها، يولد فيها طفل أتى إلى العالم ليتجسّد محبة.

نرجيلة السيد موسى وإلى جانبها النرجيلة التي حاول نعيم بربر تقديمها إلى سعيد عقل

 

وتركنا بيت أبي محمد وعدنان وأكرم، وبين أيدينا باقات الورْد التي كان قد أعدّها لنا. وتساءلت عن مفاهيم الأميّة. يُريدونني أنْ أعتبرَ أبا محمد أميًّا، وهو يعرف كلَ شيء عن لبنان، (وعن سعيد عقل إلّا كونه لا يُدَخِّن النّرجيلة)، ويعمل كلّ ما بوسعه لخدمة لبنان والحفاظ عليه؟ وتساءلتُ أيضًا: ما معنى بعض العبارات المألوفة: “نصف لبنان لا يريد”، أو “الطائفة الفُلانيّة لو تولّت الحكم لقَادت لبنان إلى الهلاك؟”، إلى ما هنالك من خزعبلات؟… وقلتُ: في لبنان فعلًا طائفتان: سعيد عقل، والسيد موسى، وأبو محمد، ونجيب جمال الدين، وألفرد مرّ ومي مرّ، وموريس عواد، وجورج شكور ونور سلمان… من إحداها (طائفة لبنان) والسّاسة الذين حكموا لبنان في هذا القرن من الأُخرى، وهي طائفة من مستغلِّي لبنان.

ولو تألفت وزارة من السيّد موسى الصدر ونجيب جمال الدين وأَبي محمد فقط، لاعْتبرتها أنا تمثّل كلّ لبنان.

رُبَّما لأنَ أبا محمد وعدنان وأكرم، كان قد “بَرْطَلنِي” بِبَاقَة ورْد وبنفسج. وأنا لا أرتشي إلّا بالبنفسج والورْد”…

جون- 17/9/ 2020

 

الشاعر محمد نعيم بربر مع سعيد عقل

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *