الأيديولوجيات السياسية الحاكمة وتأثيرها في طمس أو تعزيز ثوابت الهوية الثقافية الوطنية

Views: 943

هدى حجاجي

لاحظنا مؤخرا تسارع وتيرة الأحداث  وتلاحقها الكبير، ما يعزز فكرة الهيمنة القائمة للأيديولوجيات السياسية الحاكمة وتأثيرها على الهوية الثقافية للأوطان، وهي هيمنة ذات مفاهيم كثيرة تختلف وفقا لوجهة نظر كل كاتب بحسب رؤيته، سواء كانت تلك الرؤية من زاوية عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية أو ثقافية الخ.

وإذا ما عدنا للخلف إبان فترات الاحتلال الغربي لأوطاننا العربية والافريقية، لوجدنا إرث تلك الهيمنة وغزوها الثقافي الذي لم يزل قائما حتى الأن، وبشكل واضح جلي يتطلب المقاومة المستمرة، عبر تكوين اتحادات ثقافية تعنى بالأمر، يكون هدفها الأسمى تعزيز الهوية الثقافية لكل وطن مستقل، لتصب في النهاية تراثا عربيا مشتركا، يؤدي إلى مقاومة طرق الاحتلال الجديدة، والتي تتستر خلف ستار ما سمي زورا بالاستعمار قديما، وبات اليوم يحث الخطى مرة أخرى عبر أبواقه الإعلامية، وأذرعه السياسية الحاكمة.

الأيديولوجيات السياسية الحاكمة وتأثيرها في طمس أو تعزيز ثوابت الهوية الثقافية الوطنية (ثقافة ابن البلد)…،هل أثرت أيديولوجيات الحُكم في ثوابت الهوية الثقافية الوطنية؟. سؤال يجيب عنه مجموعة من المثقفين العرب

***

هدى حجاجي أحمد 

( كاتبة وباحثة وقاصة مصرية)

أن أزمة الفكر عموماً في العالم العربي  تتألف من ثلاثة عناصر هي : الاعتماد على النقل والعجز عن الخلق والابتكار، ثم التواكل والاعتماد على القدر دون الإيمان بالعقل المنطقي والإرادة الواعية، وأخيراً عدم الاتصال بواقع معاصر .. أي أن الفكر يمتاز بالمقدرة على الإبداع والخلق والإيمان بالعقل المنطقي والاستناد على الإدارة الواعية، وإذا كان يعكس لنا شخصية قومية متماسكة أو بعبارة أخرى اذا كان واقع الامر أنه ليس ثمة أزمة فكر وإنما فكر مزدهر قوي ناضج محدد لما كنا نبحث اليوم حكومةً وشعباً عن “أيديولوجية” مصرية وعن إطار فكري مصري أو عربي، يغير واقعنا ويخطط لنا مستقبلنا ويعيننا على المضي في طريق التطور في عهد الاستقلال  وفي ظل السلام ..

والأيديولوجية .. كلمةٌ تتكون من مقطعين: «idea» وتعني فكرة، و«logos» وتعني علم أو دراسة. وعند تركيب اللفظين يصبح المصطلح «علم الأفكار» الذي يعرفه دوتراسي على أنه «العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجمل واقعات الوعي من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي تمثلها».  

بعض المصطلحات يتردد كل يوم في الصحف وفي الكتب والمنتديات دونما تحديد فريق يبحث عن ” أيديولوجية ” مصرية أو عراقية أو ليبية جديدة، وآخرون يتحدثون عن ” فلسفة ثورتنا الوطنية التحررية  وغيرهم من بعث “الثقافة” المصرية، وعلى تجديد الفكر المصري. كل هذا في إطار الحضارة المصرية العريقة، ومن ثم كان البحث عن أيديولوجية مصرية جديدة. ونحن الآن مواجهون بعشرات المسائل في كل مجال. وقد تدرك أن الاستعمار ليس احتلالاً عسكرياً فحسب ولكنه أيضا بتر لشخصية القومية المحتلة وسلب لما تملكه من أسلحة وإمكانات فكرية، وضرب للطاقات والقدرات الثقافية الكامنة .. لذلك كان لزاما علينا أن نبحث في مسألة نهضة الفكر والتعليم ..

عشرات من المسائل التي أثرت في أيديولوجيات الحكم وفي ثوابت الهوية الثقافية الوطنية في كل مجال والحل  المناسب لظروفنا في نطاق العالم..الحرية ؟ ما هي العلاقة بين حرية المواطن ومقتضيات المعركة التحررية؟ ما هي الديمقراطية وما هو طريقنا نحن إلى الديموقراطية؟ كيف جعلنا المرأة نداً مساوياً للرجل وما هو دورها في الحياة الاقتصادية وفي الإنتاج خاصة؟ وكيف نجعل من شخصية الفرد قيمة انسانية لرفعة المجتمع؟ وما هي القيم الجديدة التي يجب غرسها في الجيل الجديد؟  كيف نعيد القيم التي تربينا عليها للجيل الجديد من الأبناء؟ كيف نقضي على الفساد الوظيفي والمجتمعي والإداري والتحكم والمكتبية البغيضة؟ كيف نربي الانتماء في أبناءنا؟

كيف تربط بين القرية والمدينة بين العمل الذهني والعمل اليدوي؟  ماهو موقفنا من التراث؟ كيف نرتقي بنظم التعليم ونقضي على الأمية؟

ليس فقط أمية التعليم وأيضاً أمية الفكر والخلق.. الثقافة بمفهومها العام تشتمل على  فئتين من العناصر.. عناصر تقوم على أساس العقل في المقام الاول  على النظريات والمذاهب السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والعلوم الطبيعية والرياضية بفروعها والفلسفة بفروعها

إذاً فما هي الأيديولوجية؟

الكلمة شائعة فهي من كلمات العصر مثل “الحركة” و “الممارسة” و “الموضوعية” و”القيم” و “العدالة الاجتماعية” وغيرها، ولكن المعنى فيه الكثير من عدم التحديد … ويجب على الأيديولوجيات في المقام الأول أن تحقق المقتضيات العامة لانعكاس الواقع في الأفكار أو بعبارة أخرى قوانين المنطق، وعليها في المقام الثاني أن تحقق المطالب الخاصة لانعكاس جزءٍ خاص من الواقع أي أنها لا بد لها أن تصبح متناسقة أكثر فأكثر  مع الأحداث كما عاشها الناس .

***

 

خالد خميس السحاتي

 (كاتب وباحث وقاص ليبي)

إنَّ مفهُوم “الأيديولوجيا” من المفاهيم التي تُثيرُ مجمُوعة من الإشكاليَّات النظريَّة، المُتعلقة بتعدُّد الجوانب التي يُمْكِنُ مِنْ خِلاَلِهَا تَنَاوُلُ هَذَا المَفْهُومِ، فهُناك مثلاً: تعريفُ “الأيديولوجيا” من المنظُور المادِّيِّ، (نجدُ هُنا مُساهمات كارل ماركس وفلاديمير لينين وجورج لوكاش وأنطونيو غرامشي ولويس ألتوسير وغيرهم)، وهُناك “الأيديُولوجيا” من المنظُور المثاليِّ (هُنا نجدُ التعريفات السَّلبيَّة والتعريفات الاعتقاديَّة والقيميَّة والتعريفات الفلسفيَّة والتعريفات الثقافيَّة…وغير ذلك)، ودُون الغَوْصِ في تفاصيل هذه التعريفات وتشعُّباتها النَّظريَّة لضيق المساحة المُتاحة هُنا، يكفي أن نُشير إلى أنَّ “الأيديولوجيا” من الناحية اللفظيَّة تتكوَّنُ مِن مَقْطَعَيْنِ: «idea» وتَعْنِي: فِكْرَة، و«logos» وتَعْنِي: عِلْم أو دِرَاسَة. وعِنْدَ تَرْكِيبِ اللفظَيْنِ يُصْبِحُ المُصْطَلَحُ: «علمُ الأفكار» الذي يُعرِّفُهُ دي تراسي على أنَّهُ: “العلمُ الذِي يَدْرُسُ الأفْكَارَ”، بِالمَعْنَى الوَاسِعِ لِكَلِمَةِ أفْكَارٍ، أيْ مُجمَلُ واقعات الوعي منْ حَيْثُ صِفَاتهَا وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي تُمَثِّلُهَا. وقد انتشر استعمالُ هذا المُصطلح بحيثُ أصبح لا يعني علم الأفكار فحسب، بل النِّظامَ الفكريَّ والعاطفيَّ الشاملُ الذي يُعبِّرُ عن مواقف الأفراد من العالم و المُجتمع و الإنسان. وقد طُبِّقَ هذا المُصطلح على الجوانب السِّياسيَّة بصفةٍ خاصَّةٍ، فهُناك أيديُولوجية ماركسيَّة، وأيديُولوجية ليبراليَّة (رأسماليَّة)، وأيديُولوجية نازيَّة.. وغيرها.

أمَّا الهـويَّة: فتَعْنِي جَوهر الشَّيْءِ، وحقيقتهُ. وهويَّةُ أيَّة أمَّةٍ هي: “صفاتُها التي تُميِّزُها عن بـاقي الأُمَمِ الأُخْرَى لِتُعَبِّرَ عَنْ شَخْصِيَّتِهَا الحَضَارِيَّةِ”. وتُوجدُ طريقتان على الأقلِّ لتصوُّر “الهويَّة الثقافيَّة”، الأولى: ترى أنَّ الهويَّة الثقافيَّة حقيقة واقعة تشكَّلت بالفِعْلِ، بينما ترى الثانية أنَّها شيءٌ يَجْرِي انْتَاجُهُ عَلَى نَحْوٍ مُتَوَاصِلٍ، في عمليَّاتٍ تفاعُليَّةٍ دائمةٍ.  فتكوينُ الهويَّة فِعْلٌ اجْتِمَاعِيُّ يَتِمُّ عَبْرَ أجْهِزَة ووحدات المُجتمع كافَّة ومُؤسَّسات الدَّولة، كالأسرة والإعلام، والمُؤسَّسات التعليميَّة والدِّينيَّة، وغيرهـا. وفي كتابه (الأيديولوجيا والهويَّة الثقافيَّة: الحداثة وحُضُورُ العالم الثالث) “2002” يرى جورج لارين أنَّ: “مسألة الهويَّة الثقافيَّة في علاقة دقيقة بالهويَّة الشَّخصيَّة، باعتبار أنَّ الثقافة إحدى المُحدِّدات الرَّئيسيَّة للهـويَّة الشَّخصيَّة”.

ويتحدَّثُ لارين هُنا عن النمُوذج الألمانيِّ، في فترة توحيد الألمانيتين، وتأثر الهويَّة الألمانيَّة بالأيديُولوجية التي كانت سائدةً قَبْلَ ذَلِكَ، وموجة القوميَّة والعلاقة مع الآخر، ولذلك، فهُو يرى أنَّهُ: يجبُ تجديد التعليم للبحث عن مصالحنا الخاصَّة، وتطوير الشعـور القوميِّ الصحيِّ، وذلك في معرض تحليله الختامي لأفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني: يورغن هابرماس. وتُعدُّ سنغافورة نمُوذجاً جديراً بالدراسة فيما يتعلقُ ببناء الهويَّة الوطنيَّة الحديثة من قبل النخبة الحاكمة، ومدى نجاح تلك التجربة في جعل سنغافورة بلداً حديثًاً يعتمدُ على التكنولوجيا والانفتاح على العالم، لكنه يحافظ لنفسه على هوية وملامح ثقافية وطنية تستوعب التنوع العرقي والثقافي في البلاد. إذا، ممَّا تقدَّم، نُلاحِظُ أنَّ النظام السياسي القائم يُؤثرُ في الهويَّة الثقافيَّة الوطنيَّة، بشكلٍ سلبيٍّ أو إيجابيٍّ، فهُو يُمكنُ أنْ يُعـزِّز الهويَّة الوطنيَّة من خلال سياساته العامَّة، المُتعلقة بالتركيز على قيمٍ كحُبِّ الوطن وحمايته، والمُواطنة الإيجابيَّة الفعَّالة، واحترام الدُّستُور، والانتماء الوطنيِّ، وقد يُؤثرُ عليها سلبيّاً من خلال ترسيخ مُمارساتٍ سلبيَّةٍ تتركزُ حول البحث عن المصالح الشَّخصيَّة الضيِّقة، وعـدم الشُّعُـور بالانتماء الوطنيِّ، وغير ذلك. ولهذا فإنَّ المطلُوبَ مِنْ كُلِّ المُؤسَّسَاتِ المَعْنِيَّةِ بِالهَـوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ أنْ تُرَكِّزَ عَلَى تَعْزِيزِ القِيَمِ الإِيجَابِيَّةِ، وَغَرْسِهَا عَبْرَ وَسَائِلِ الإِعْلاَمِ المُخْتَلِفَةِ، وَالمَنَاهِـجِ الدِّرَاسِيَّةِ، مِنْ خِلاَلِ تَبَنِّي خِطَابٍ عقلانيٍّ يَجْمَعُ شَتَاتَ الوَطَـنِ، وَيُوحِّـدُ صُفُـوفَ أَبْنَائِهِ فِي مَسِيرَةِ البِنَاءِ وَالتَّطْـوِيرِ..

***

 

مؤمن توفيق

(كاتب)

بداية الإجابة هي نعم.

بالطبع هناك تأثير لأيديولوجيا الأنظمة في ثوابت الهوية الثقافية، بالرغم من تميز الشخصية العربية بالتناغم والانسجام بفعل اللغة والدين وكذلك الجغرافيا المشتركة، بالإضافة للعادات والتقاليد المتأصلة، الأمر الذي يحول بين تلك الأيديولوجيات السياسية بتأثيراتها المتنوعة وتنفيذ مخططاتها المستمرة لتغييب الأمة، وإذا ما عدنا للأسباب المؤدية لهذا الصراع لوجدنا الإشكالية في غياب فكرة المواطنة بين الأفراد، وتعدد المرجعيات والإثنيات المفرقة، (من أهم أسباب عدم قيام الدولة الحديثة)، كدليل قوي على فشل تلك الأنظمة السياسية في الاتحاد وبناء قوة اقتصادية صاعدة.

إن معظم المعارك التي نشبت قديما وحديثا قامت إثر صراعات طائفية وسياسية، بدوافع الهوية والتنافس وفرض نظام القوة الواحدة، ما أدى في النهاية لاستمرار التناحر حتى اليوم، رغم بصيص أمل وشيك بات يلوح في الأفق باندلاع الثورة العراقية، والتي أظهرت اتحاد العراقيين وانحيازهم للوطن عوضا عن الطائفية والقبلية، وهو ما يؤكد أن الراهن دوما على الوعي الجمعي للشعوب، رغم ما تملكه الأيديولوجيات السياسية من آليات وطرق من شأنها التأثير على الهوية، والشواهد كثيرة تشير إلى تبعية تلك النظم للهيمنة الأمريكية المستغلة لها حفاظا على مصالحها الشخصية، وللإبقاء على الأمة في حالة من اللاوعي، عن طريق ضغوط اقتصادية وسياسية تمارسها دوما للسيطرة عبر ذراعها الممتد بصندوق النقد الدولي تارة، أو من خلال توزيع الأسلحة الأكثر تطوراً وفق خارطة المصالح الخاصة بها تارة أخرى، وبذلك تضمن التدخل الشامل المؤثر من خلال تلك الأنظمة الهشة بالتبعية، ومن ثم محاولتها تغيير مجموعة القيم الدينية والاجتماعية، والعادات والتقاليد والثقافات عبر أبواقها الإعلامية الموجهة لطمس الهوية الثقافية لأمتنا العربية، وبالرغم من تكرار هذه المحاولات، إلا أن الأمل باق والرهان قائم على وعي الشعوب وإدراكها التام للخطر المحدق، من خلال المقاومة المستمرة والتماسك والانسجام الثقافي والحضاري، والسعي للانفتاح تجاه كل ما هو جديد بما لا يتعارض مع الانتماء القومي والديني، وبما لا يضعنا أمام إشكالية ظهور هويات ممسوخة لا تتفق وتحدياتنا القادمة.

***

رامز النويصري 

(كاتب)

من البديهي أن السياسة لها تأثيرها المباشر في المجتمع، فلا يمكن أن تكون سياسة بلا مجتمع تعمل فيه أو تقوم على إدارته، وبغض النظر عن جدوى هذه السياسة من عدمها، إلا أن تأثيرها المباشر يظهر من خلال المجتمع، والذي يتشكل في مظاهر ثقافية، يتناقلها المجتمع ويتوارثها.

بالتالي عندما تروج الكيانات السياسية لما يزعزع الثوابت الوطنية، ويعمل على ضرب النسيج المجتمعي للبلاد، فإن هذا يصيب الوحدة الوطنية في مقتل، إذ إن هذه البرامج تعمل على التشكيك في الثوابت الوطنية، وزعزعة اليقين بالانتماء للوطن.

وللأسف نحن في بلادنا نقع ضمن هذه المسألة، من خلال ضرب الوحدة الوطنية وتشكيك المواطن البسيط في ثوابته الساسية، في وحدة تراب ليبيا باتجاه التقسيم.

مالم تكن هناك إرادة او كياس سياسي قوي قادر على إحداث التأثير المباشر، سيكون المجتمع كالسفينة التي يتلاعب بها الموج.

***

 

بهجت العبيدي

 (كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا)

ما من شك في أن السياسة الحاكمة في أية جماعة بشرية تعمل على تكريس المفاهيم الخاصة بها، هذه المفاهيم التي تحول نظام الحكم – خاصة في دول العالم الثالث – إلى عقيدة في نفوس أبناء هذه الجماعة البشرية، ولقد كان – ومازال – هناك  في عالمنا العربي أمثلة صارخة تأخذنا إلى دروب من التيه عانت منه الهوية الثقافية الوطنية، خاصة وأن مجتمعنا العربي مجتمع إثني، بل متعدد على مستويات عدة، تبدأ بالدين ولا تنتهي به.

والهويّة الثقافيّة – كما هو متعارف عليه – هي عبارة عن ثقافةٍ ما، أو هويّة لمجموعةٍ ما أو شخصٍ ما نظراً لإمكانيّة تأثر هذا الشخص بهويّة المجموعة الثقافيّة، أو ثقافته التي ينتمي إليها.

وإذا أضفنا كلمة وطنية لهذا التعريف، فإن ذلك يصبغ هذه الهوية بصبغة الوطن الذي هو هنا عالمنا العربي، والذي هو ليس كله – كما يبدو – كتلة واحدة أو مجرد مساحة ممتدة، تشكّل أبناءها من المحيط إلى الخليج بصبغة واحدة، منتجة نموذجا واحدا، ذاك الذي لا يتفق مع الواقع مرة، ولا ينسجم من العقل مرة أخرى، حيث أن لكل بيئة من بيئات عالمنا العربي ثقافة متباينة عن الأخرى، بل في الدولة الواحدة هناك هويات ثقافية مختلفة، ولا نكون مبالغين إن قلنا أن هناك هويات ثانوية تشكل البيئات الأصغر داخل البيئة الأكثر اتساعا.

وإذا كان  مصطلح الهويّة الثقافيّة يماثل أو يتقاطع مع مصطلح سياسة الهويّة؛ حيث إنّ الهويّة هي ذات الفرد، وتتضمن في معناها عدداً من القيم والمعايير، وتشكّل ثقافة الإنسان ومدى معرفته في عددٍ من المجالات المختلفة، إضافةً إلى إلمامه ووعيه بالقضايا المحيطة به في المجتمع، حيث إنّها تمثّل التراث الفكري له.

فإن ذلك الذي يُظْهر لنا بجلاء ما يمكن أن تلعبه السياسة الحاكمة في تغيير وتبديل أو بالأحرى محاولة تغيير وتبديل الهوية الثقافية للفرد ومن ثم الهوية الثقافية الوطنية، والتي هناك العديد من الوسائل للتأثير فيها، خاصة في ظل المتغيرات الحديثة في وسائل الإعلام التي أصبحت المُشَكّل الأكثر سرعة والأقوى خطرا على الهوية الثقافية للفرد، الذي يتم استهدافه من السياسة الحاكمة على مدار الوقت، من خلال بث ثقافة لهوية معينة، يرى الحاكم فيها حفاظا وحماية لنظامه الذي يسعى إلى ترسيخه.

وإذا حاولنا أن نضع عالمنا العربي تحت مجهر البحث في هذا الجانب الحيوي، لوجدنا السياسة الحاكمة ساعية لصبغ مجتمعها بالصبغة التي ترى فيها تدعيما لسلطتها، والتي تتراوح ما بين ثلاثة مظاهر:

– الأول يتخذ من الدين “الإسلامي بمفهومه الضيق” وسيلة متجاهلا كافة العوامل والثقافات المختلفة التي ساهمت بشكل فاعل في تكوين الهوية الثقافية.

– الثاني يتخذ القومية “هنا العربية مثالا”: نظام ناصر وصدام والقذافي معليا القومية على ما عاداها من مكونات للهوية الثقافية.

– الثالث يتخذ الاستغراق في المحلية والعودة إلى الجذور البعيدة كمكون أول للهوية الثقافية التي يسعى لترسيخها.

إن من الخطورة بمكان تلك المحاولات المستمرة من بعض النظم الحاكمة، في التأثير بوعي وعمد ولمصلحة خاصة ضيقة التأثير في الهوية الثقافية الوطنية، خاصة في ظل عالم جديد يسعى سعيا حثيثا للقضاء على الهويات الخاصة للشعوب فيما يعرف بالعولمة، التي تهدف إلى فرض نموذج واحد وثقافة واحدة، وهوية وحيدة، والتي هي بكل تأكيد هوية المنتصر الحالي، وهو الغربي في المطلق، تلك العولمة التي تهدد تهديدا مباشرا الهويات المحلية، والتي يجب على الأنظمة الحاكمة ألا تساعدها، بتهميش الهويات الثقافية الوطنية المختلفة التي تتمتع بها البيئات المتعددة، فالعمل على تثبيت هوية ونزع أخرى من قبل نظم حاكمة نرى أنه هو اللحظة الملائمة لفقدان وضياع الهويات الثقافية الوطنية، وهو في ذات اللحظة الحالة المناسبة للانصهار والذوبان في ثقافة هوية العولمة التي تسعى لها الدول الأكثر قوة والأعلى ثقافة والأعظم هيمنة.

ونحن نتفق مع الباحثة الجزائرية بريجـة شريفـة فيما ذكرت في رسالة الدكتوراة “التغيرات  السوسيو- ثقافية  وأثرها على  الهوية الثقافية للمجتمع الجزائري” حينما أكدت

أن الثقافة والهوية الثقافية يتماشيان باتجاه مترابط، فالثقافة بحاجة للهوية كوسيلة تحمي الميراث الثقافي، وبالمقابل الثقافة تساهم في تطور الهوية لدى الشعوب وتقدم لهم اختياراتهم في الانتماء.

 فالهوية الثقافية كمفهوم حديث، يُمثل بناء مستمر على طول الحياة ويُوضح الاختلاف الموجود بين حاملين الثقافة، وعلاقتهم مع مختلف الثقافات  لهذا يستلزم البحث في هوية كل ثقافة وخاصيتها، كونها مُلمة ولها فضاء مُحدد وواضح، وبالتالي الهوية لا تكتسي صفة الكونية  كما يعتقد البعض.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *