مجنون… ولكن! بشارة يوسف إيليا

Views: 1043

 د. جان توما

 زرت الراهب الأنطوني بشارة  إيليا لأبارك له بمهمته الجديدة كمدير لمدرسة سيدة النجاة – الأنطونية في ميناء طرابلس فكان الكتاب ثالثنا. خرجت من مكتبه ومعي زاد يكفي بعض الطريق ومنه كتابه “مجنون … ولكن” ( صادر عن دار المكتبة الأهلية، 2018) هو كتاب يخرج من الدنيا… ولكن إليها. فالجنون صفة العقلاء لأنّهم يخرجون من مسالك الآخرين المتشابهة إلى الانمياز كما يقول الجاحظ. صحيح ” أن حياة الإنسان هي مشهدية جنون” (ص8) لا يقدر الإنسان عليها إلاّ بالصلاة والصوم، وهذا ما التزمه الكاتب حين كتابته مؤلِّفه ” تركت كلّ شيء إلاّ الصلاة” ( ص8) واستطرادًا الصيام.

يذهب الكاتب إلى الأصالة، إلى البداءة التي تلقّاها إلهامًا ودعوة وتقوم في ” أن تحاور المجانين إذ تلك هي فضيلة إنسانيّة سامية” (…) وهي بمحبة المجانين وخدمتهم والصلاة من أجلهم، ففي دير مار أنطونيوس قرحيا مغارة، إن نام فيها المجانين يُشفون، والأب يعقوب الكبوشي بنى دير الصليب لشفاء المجانين، ترعاه عائلته الروحية وأصدقاؤه” ( من مقدمة الأباتي أنطوني ضو- ص11).

يبدو الأب بشارة ايليا، كاسمه، مبشرًا وغيورًا، باحثًا عن مسيح الإنجيل لا عن مسيح المسيحيين، كما يقول جبران الذي خالفه الكاتب ” بأن كان بالفعل مجنون سماء وقداسة في حين أنّ مجنون جبران قد رأى إلى الكهنة بوصفهم ضالّين عن تعاليم المسيح المحجوبة عنهم، وهم غير قادرين على التمتّع بانكشافات الجنون، من هنا فإنَّ “الجنون” الاختلافي عند هذا الكاهن الثائر دليل على مجاوزة الرؤية الجبرانيّة خصوصًا العمودية في مساويّتها”.(مقدمة نبيل أيوب- ص 17).

قد يكون من الصعب في هذه المقالة العبور إلى شخصيّات الكتاب كاملة، ولكن لا بدّ من التركيز على شخصيّة المجنون “عبدالله” الذي يجلس مع الكهنة لتناول الغذاء والتحاور معهم في ظلّ توصيّة من الأب مارون للكاهن الجديد الشاب:” أنت كاهن شاب وجديد في هذا الدير، عليك أن تتعرّف إلى الرعيّة ولا تترك انطباعًا في النّفس أنّك معشر المجانين”.(ص25).

يأتي المؤلف بـ “عبدالله” ليرصفه مع ” خالد” للريحاني و” المصطفى” لجبران، و”مرداد” لنعيمة. هو لم يخترع الاسم بل كانه. أسقط حالته على الحالة العامة. عبُد الله هو ذاك الذي يبقى حرًّا، ولو كان في عبودية الله.  لقد حفل الكتاب بمجموعة من اللوحات بيد الكاتب للدلالة على أنّ الرسم بالكلمة أو بالريشة أو بالنغم يأتي بكلّ الفنون المتوافرة للتعبير عن ثورة الإنسان وفي إيمانه بالرّجاء الذي فينا، بهذا الرجاء يلج “عبدالله” المجنون إلى الدير أحيانا صامتًا وأكثر الأحايين صارخا باحثًا عن المسيح الذي يفهم حالته مؤمنًا “بأنّ الصلاة والتقشف والإماتة والتأمل والاتكال على معونة الله هي دواء لكلّ داء”.(ص32).

يطلق ” عبدالله” حارس الزمان والمكان” (ص40)،  في الجلسات اللاحقة مجموعة من الحكم انطلاقا من القول السائر:” خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، ففي الخوف يقول:” أنا لا أخاف إلّا إذا سكن فيّ الخوف، فلا أخاف إلّا من الخوف الذي سكن أعماق القلب”(ص38)، وعن الحبّ :” الحبّ هو لا شيء وهو كلّ شيء وبدونه لم يكن شيء”( ص39). هذه المضامين الإنسانية كانت تأتي سهلة على لسان “المجنون” الذي رغم فلسفة أقواله وعمقها لم يتأخر عن تحسين” بنطاله ورفعه إلى الحدّ الأقصى” (ص58). ورفع البنطال لم يمنعه عن عرض مواقفه في الديمقراطيّة، الحريّة، الكهنة، الجراح، والعطاء ما جعل الأب ” مفيد” المستمع  إلى أن يقفز في طريق العودة إلى الدير ما دفع متسوّلة تقول:” يا ضيعان شبابك يا ابونا، أنت مجنون غير شكل، أنت الأبونا المجنون”.(ص 67).

تكرّ الأحداث مع “عبدالله” ، يغيب ويعود، يطلق الحِكَم ويستعيد ذاكرة أو تحتجب. يعرف الطرق وتعرفه. تعرفه الوجوه ولكنه ينسى بعضها. يصير هو الطريق عند الأب ” مفيد”. غريب كيف يتكامل “عبدالله” و” مفيد”، في جنونهما، في هدأتهما، في صلاتهما، في ترجمة مسرى حياتهما. لكن المفاجأة أن الأب ” مفيد” يعود بعد غياب إلى الدير. يبحث عن عينّي” المجنون”. لم يره مع المصلّين. فجأة ” سمع صوت عبدالله. التفت، ومن دون أن يركض نحوه ليعانقه، ابتعد عبدالله خطوات وقال له” من أنت؟ ألست الأب الجديد في رعيتنا؟” ينهي الكاتب بجواب “عبدالله” لتبدأ الحكاية من جديد :” أنا عبدالله وينادونني بالمجنون”.(ص157). وهي حكاية جنون كلّ منّا في أزمنة التعب والانكسار للعبور إلى عالم الرجاء والانتصار

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *