قصة قصيرة… “فنَّاصٌ كبير”

Views: 758

مطانيوس ناعسي

أنا من يُردي دُبًّا بركلةٍ، ورجلًا بلكمة! أنا قاهرُ الأفاعي في البساتينِ، والذّئاب في كلِّ حين! أنا القادرُ على خنقِ سَبْعٍ، وفَسخِ ضَبْعٍ، ودَحرِ رَبْعٍ! والمؤهَّلُ لأنْ أعدوَ أميالًا، وأجاريَ أجيالًا، وأحقّقَ مُحالًا! أنا… أنا… أنا… أنا…!!!

ذلك هو “صادق”، “فنَّاصٌ كبير”، يكذبُ في الصّغيرةِ والكبيرةِ…

في أحدِ الأيّامِ، وبينما هو يتشدّقُ بمآثرَ وهميَّةٍ في أحدِ مقاهي القريةِ، أفصحَ أمامَ الموجودينَ عن رغبتِه بأنْ يكمنَ ليلًا في بستانِه، ليرديَ بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتِه الفريدةِ القنفذَ اللّعينَ الذي ما برحَ ينتهكُ أرضَه، ويفتكُ بمزروعاتِه.

ولمّا كان بعضُ الموجودينَ يضيقونَ ذَرْعًا بمبالغاتِه، فقدِ اقتنصوا بحماسةٍ فرصةَ تلقينِه الدّرسَ الموعود! لذا، سبقوهُ إلى هناكَ لينفِّذوا قُبيل وصوله بعض مُستلزمات خطّتهم، وبحلولِ اللّيلِ، “شرَّف صادق” حاملًا بندقيَّةَ صيدٍ ومصباحًا، وتوجَّهَ مباشرةً إلى المصطبةِ المرتفعة!

ولمّا كان منَ المعروفِ عنه نومُه باكرًا، فقد صدقتْ توقّعاتُ المختبئينَ، إذ ما إن تدثَّرَ باللّحافِ التّاريخيِّ حتّى غلبهُ النّعاسُ، فَغَفا! عند ذلك تحرَّكَ رَجُلانِ باتّجاهِ المصطبةِ، وراحا يُلصقانِ شموعًا مضاءةً على أظهُرِ السّلاحفِ التي كانا قد جمعاها لهذه المناسبة!وبعد إتمامِهما المهمّةَ، أطلقا الحيواناتِ بينَ الأعشابِ، وهما على مشارفِ الانفجارِ بالضّحكِ، قبلَ أن يعودا إلى جوارِ رفيقيهِما، اللّذينِ جذبا عندها الخيوطَ المربوطةَ إلى اللّحافِ، فانزلقَ عن كتفيْ “صادق”، الذي سارعَ إلى جذبهِ من جديدٍ حتّى حدودِ أذنيه منْ دونِ ردَّةِ فعلٍ تُذكر!

وبتكرارِ الأمرِ على هذا النّحوِ ثلاثَ مرّاتٍ متتالية، أيقنَ “صادق” أنَّ ما يجري ليسَ طبيعيًّا على الإطلاقِ، لكنَّهُ لم يجرؤْ على استكشافِ الأسباب! ولمّا قرَّر المتآمرونَ دفعَ اللّعبة إلى حدودِها القُصوى، جذبوا معًا الخيوطَ بقوَّة، فطارَ اللّحافُ عنِ “القبضاي” الذي ظنَّ أنَّ “الجنّ” قد حضروا لاختطافِه، فقفزَ كالنَّمِرِ عن المصطبةِ، وراح يسابقُ الرّيحَ باتّجاهِ القريةِ من دونِ أن يجرؤَ على الالتفاتِ إلى الوراءِ، وقهقهاتُ مدبّري المقلبِ تبلغُ مسامعَه بوضوحٍ، وهو يظنُّها قهقهاتِ أبناءِ ذلكَ العالمِ الخفيّ!

في صباحِ اليومِ التّالي، تحلَّقَ المنتقمونَ حولَ “صادق” في المقهى، وسألوهُ، وهم يتغامزونَ، عن مجرياتِ أحداثِ اللّيلِ الفائتِ، فقال:

البارحة، قرابةَ الثّامنةِ والنّصفِ ليلًا، سمعتُ وأنا في البستانِ وقعَ أقدامٍ خلفي، فاستدرتُ لأجدَ على بعدِ أمتارٍ منّي”ضبعًا” يتطايرُ الشّررُ من عينيهِ المحمرّتينِ، وتنبعثُ منه رائحةٌ كريهةٌ، ولمّا كانتِ البندقيَّةُ في يدي، فكَّرتُ في أن أطلقَ عليه النّارَ، لكنَّني عدتُ وصرفتُ النَّظرَ عن ذلكَ، مخافةَ أن يُنذرَ صوتُ الطّلقةِ القنفذَ، فيُحجمَ عندها عنِ الخروجِ من جحرهِ لموافاةِ مصيرهِ المحتومِ، ولمّا كان المصباحُ الكهربائيُّ في يدي الأخرى، هممتُ بأن أسلِّطَ الضّوءَ على عينيهِ، فالضّباعُ، كما تعرفونَ، تكرهُ الأنوارَ وتتحاشاها، غيرَ أنَّني، وخوفًا من أن يلمحَ القنفذُ الضّوءَ، عَدَلتُ أيضًا عنِ الأمر، فلم يبقَ لي إلّا أن أُرهبَه بتكشيرتي المعروفةِ، وفعلًا، ما إن تقدّمتُ منه بحاجبينِ معقودينِ، وعينينِ جاحظتينِ، ومنخرينِ منتفخينِ، حتّى استدارَ خائفًا، قبلَ أن يعدوَ باتّجاهِ “جبل السّلطان”. وبعدَ دقائقَ على تلكَ الحادثةِ البسيطةِ، قَدِمَ القنفذُ من ناحيةِ بستانِ “نظير محروق”، فصوَّبتُ سلاحي نحوَه، وأطلقتُ النّارَ، ويا حرام…! ثمّ تسلَّقتُ سلَّمَ المصطبةِ، وجلستُ على الفراشِ أشربُ الشّايَ. وفجأةً، حضرَ “الجنّ” إلى المكانِ وفي أيديهم شموعٌ مضاءةٌ، وراحوا يرقصونَتحتي ضاحكينَ فرحينَ، ولمّا دعوتُهم إلى شرب الشّاي، لبّى بعضُهم دعوتي بسرورٍ، فتسامرْنا لساعةٍ منَ الزّمنِ، قبلَ أن أستأذنَهم وأعودَ إلى المنزلِ. لكن “يا حرام”… فعلًا “يا حرام”…! تخيَّلوا، لم أتمكَّنْ من العثورِ على أدنى أثرٍ للقنفذِ المسكين بُعيدَ إطلاقي النّارَ عليه، أتصدّقونَ؟! ممتازٌ ذلك “الخرطوش” الذي “أَدُكّه”…! ممتاز…! ممتاز…!

***

(*) “بتصرّف” من كتاب “طوجو” لـ مطانيوس ناعسي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *