‏”حجري يطحن العناقيد وحبّات الزيتون وصولاً إلى الميرون وإلى الشأن المقدس”

Views: 360

‏شوقي أبي شقرا

‏كانت الأيام بطيئة وكسلى في ذلك المكان من العمر، هذا المكان الذي يدعى بيروت المترامية الحياة، ملأى بالبهجة وانتظار شيء ما أحلى لعلّه كان الأدب في نثره وشعره، وكنت تلميذاً داخل الجدران والقاعات وحريتي ضئيلة آنئذٍ من أوائل الخمسينات من القرن العشرين، وقبلها تلك السنوات التعليمية، ولم تكن عجافاً كلها، إذ كنت أقرأ وأكاد أقارب الانسجام مع ذاتي ولكن في آونةٍ دون أخرى. وكنت حائراً، فلجأت إلى القلم الذي حملته من العاصمة بيروت إلى ضيعتي مزرعة الشوف حيث حريتي فرحة كاملة، خارج الصفوف والأبحديات وسائر الموجبات، وكتبت القصيدة وبدأت أصوغ اللغة التي تميزت بها منذ البدء، منذ تلك الحقبة.

‏ ‏إنها تجربة قامت باكراً على وقع القافية وبحور الخليل، ويشهد لي بذلك بل شهد لي الأستاذ حسيب عبد الساتر ونحن في مناخ الضيعة، والصيف هنا والشعر هنا والصبايا هنا. وكانت الحياة رعوية فلاحية تخلو من السيارة كلياً ما عدا البوسطة التي كانت تأتينا في ‏الغسق وفي الأمسيات التي نتمتع بلونها وبغبارها ويكفي أن نغسل أرجلنا في العشية لنرتاح من العبء الذي لا يوصف، إذ ربما هو اللعب الشديد، وربما هو الأفكار التي تختال في رؤوسنا، وربما هو هاجس النظافة البسيط الذي ينطلق من القدمين ويصعد إلى الوجه، وإلى اليدين أساساً.

‏خرجت من المدرسة، من مدرسة الحكمة، إلى البطالة، والكتابة تلحّ على نفسي لأكون ‏في السباق إلى الكلمة، إلى القصيدة. وقبل أن نؤسّس “حلقة الثريا” سنة 1956 لازمي كون الصياغة يجب أن تكون شريدة الوجود، أي أن يكون الشكل ناصع الحبكة، ناصع السطور والمقاطع. وكنت في مقتبل الشباب ومقتبل كل شيء، إلا أنني حريص على جلاء النص جلاءً قوياً، بحيث لا نقع في الفوضى أو في الحشو. وأظنّني بهذه الملكة، سرت في طريقي وكنت صاحب تأثير في “الثريا” وخاصة في مجلة شعر فيما بعد حيث كنت الأقوى أُرْشِد إلى الجمال وإلى الشكل الذي يجب أن يكون باهراً، وأن تكون القصيدة به في ثوبها القشيب والمنفرد والقائم على الصدمة واكتمال وقعها ونزولها منزلة اللؤلؤ لا أكثر  ولا أقلّ.

‏ ‏مشروعي تحضنه لغتي، إذ هو طويل كالشهاب في السماء، ابتدأ يصير إلى ما هو، في هذه اللغة التي مشيت بها منذ الحروف الأولى ومنذ السطور التي ألفتها في عهد الصبا. وكلما وضعت نصًّا كنت أتقدم. وكنت الذي خلق رموزاً من واقع بلادي ومن الوجوه التي صادفتها ومرّت عليّ، ولا أحتاج إلى أسطورة من التراث الأجنبي، أياً كان، فكان لي أنني كوّنت ما هو أسطوري ورموزي ممّا يحيط بي، وارتقيت بالأمر إلى هذه المرتبة، إلى حيث يعدّ ذلك مشروعاً من الطراز الخاصّ.

‏ ‏إن مجمل المشاعر والأحاسيس التي تغمرني هي ما حرّكني في مطلع المسار، ولا أحد، بل ربما أحدهم حسيب عبد الساتر تتم فؤاد كنعان. هما مَنْ رأيا أنني أنفرد في الكتابة وأنا تلقّفت ذلك، ولو كنت ابن فقراء وابن عالم فقير من حيت الأرقام، لكنه غني من حيث الحركة والتواتر. وإذا بي، في هذا المناخ الضئيل، وفي حالتي التي هي متواضعة، أراني آخذ الأشياء من حولي، وآخذ الموجودات المتنافرة والمتناغمة معاً، وهي بسيطة، وأجرّها إلى نصّي، لتكون، فوق البساطة القاتلة، إلى أعلى ممّا هي، لترتدي أزيائي ولبوسي، ولا حساب في طريقي. وكنت متفتّحًا أيضًا على الآداب البعيدة والقريبة، ولكن كان شميمي مثل قطف الورد، مثلما يحطّ الحمام ثم يطير.

وكان الطيران لي من هذه الدرجة وصرتُ مّن صرت بواسطة التطلّع والإحاطة بالمعرفة، ولكن لا أغوص في ما عندي، بل أشدّد على ذاتي وأتوسّع في ما يتاح لي عبر مجتمعي، ولا سيما الواقع الذي رفعته إلى مداي والى رحابتي، وما زلت أغرف من ذاتي بما عندها من رواسب وأصداف مغلقة وينبغي فتحها.

‏ ‏قرأت بعض الشعراء قراءة سريعة إذ إن رأيي الذي تدبّرته في آخر المطاف هو أن الشاعر عليه أن يكتب وهو في غفلة عن سائر الشعراء، ما عدا أنه يحق له أن يقرأ سريعاً ما لدى سواه، دون أن يكون تحت رحمة التأثيرات والإيقاعات المختلفة جملةً. وأذكر أني فعلت دائماً هكذا، مثلما هو الطعام أتذوق من غيري كما حال الملعقة أغمسها وأرتوي من المائدة بالقليل الذي يدفعني إلى الولوج أكثر إلى قبو ذاتي، إلى العتمة الخفيفة والكثيفة. وهكذا هناك بودلير، رامبو، مالارميه، فرلين، بشّار بن برد، أبو تمام، المتنبي، وكانوا الأقرب إلى متناولي وأقرب إلى الشخص الوحيد في الطريق، مثل سندويشة “أكدشها” قبل أن أدخل الكرمة حيث أعصر نبيذي وحيث حجري يطحن العناقيد وحبات الزيتون وصولاً إلى الميرون وإلى الشأن المقدس. وما من ملامة عليّ، فإني سافرت في البحر وأنا في البر، وأقصد أني اخترعت بحري وأسماكي ومراكبي وأشرعتي وحصلت على مكافأة هي أنني أدركت صنع القصيدة والفتون بها والافتتان بكل ما يصدر عن القلب من العمق ومما لا يذهب هباءً، ولا يكون يباباً.

‏كلّ الوقت أسمع أن أمين الريحاني كتب الشعر المنثور وأن لغته بسيطة وأشبه بالتخاطب. ولا أريد أن أجعل من أمين الريحاني شاعراً أو شخصاً على المفترق. وأظن أن ما فعله إنما كان من جراء ثقافته الواسعة وكونه في الخضم حيث طرأت له القصيدة المنثورة. وأعتبر أنه ناثرٌ ألمعيّ ووافر البركات في صنيعه بحيث يرقى إلى الطبقة الجيدة التي نفخر بها. ولا أريد مكرّراً ذلك أن أقف عند منثوره، وعند هذه القضية العابرة في سلوكه. وأدلّ إلى الاتجاه الذي ضرب القصيدة العربية، وهو الاتجاه نحو المنثور أي لا وزن إطلاقاً ولا قافية إطلاقاً على عكس ما أصاب بعض المتراجعين إذ عمدوا إلى الوزن الذي يجرجرونه على الورقة ويعملون إلى ذرّ بعض القوافي في ثناياه، وذلك خوفاً من قبلهم وسقوط عند العتبة التي تؤدّي إلى السور الكبير وإلى المغامرة الحرة والجديدة والتي لا تفتأ تنهض من النوم على أيدي بعض المغامرين وبعض التجارب وتكاد تكون نادرة. ولا أحسب أنني أخترع البارود لا من هذه الجهة ولا من تلك. ويكفي الشاعر أن يخلق، بمعنى الخلق الحق، وأن يصل إلى عجينة طيّعة، وإلى أن يضع خبزاً لنا ويطعم الجياع إلى الحقيقة الثقافي‌ة، بل الشعرية في درجة أولى.

‏‏جبران على مدى كتاباته، ملأنا من مياهه الثرّة ومن موسيقاه الخافتة تارّةً والصيّاحة تارّةً أخرى. وكنا التلامذة الذين امتلكوا منه الخيال العارم والاستعارات التي تتلوّى مثل ‏الحيّة والتي ترسل القارئ إلى الدنى الواسعة، إلى مجاهل وإلى حقائق وإلى المعاني التي تستقطب النفس ويرتجف التلميذ الذي هو نحن ونقع في المسحور والجبّ الذي يأوينا ‏هنيهات ولا نتعذب فيما نحن واقعون ومنفلتون وعلى رسلنا في هيجاء من الصوَر والإيحاءات والانعطافات الشتّى.

ولمّا كبرنا شعرنا بما نمتلك وما بين أيدينا من رحيق جبران وألوانه الذائبة فينا، ويسرّنا أبداً أنه أعطى حق النبوة للشعراء، ولكنّ في الأمر صعوبة التحدي، ويبقى السر بعيداً وقريباً في آن. ولسنا بالضرورة أنبياء بالمعنى الخاص، أي المعنى الذي يطوّق سجل شاعر، محض شاعر حق، وليس أي شاعر لا هو محض ولا هو حق. وغلب الأمر على بعضنا، في هذا السياق، بحيث كتب لنا، أي لهذا البعض، أن نكشف عن الغنائي الدراميّ والمأساوي، وعن الفكاهي والنادر والذائب تلميحاً وإشارات. وهكذا كان شأن النبوة أن انقلب من منقلب إلى آخر. ولئن كان جبران نبوياً من حيث الروح، روح الكتاب المقدّس، فإن البعض الآخر زارته هالة من هالات النعمة، وزارته الحداثة التي هي تيار أقوى يجمح المتناقضات ويسحب هذه إليه، إلى سكّته وإلى غمره، وإذا سيفه لمّاع وطريق البرق واللمعة والبهاء. وكانت المواقف المتنوعة وكانت ليست كلها في المسار الصحيح وإن كانت تطمح إلى هذا الصحيح وإلى أبعد منه، ‏وإلى موسيقى وخيال ورجفات تختلف كلياً عمّا سبق من جبران ومن سواه.

والمشهد الشعري اليوم، من هذا الباب، غير ما كان وما سيكون، إلا أنّني أكاد أرى أن جبران ما زال حيّاً وأن النسق الجبراني كأنه على موعد مع السيّاح، وأكاد أرى أننا في الشعر العربي الحديث كذلك نحن على موعد مع السياح من  القراء الذين يأتوننا من ثقافات مختلفة ومن أوقات مختلفة ومن تأثيرات مختلفة. وكما قلت سابقاً، ينصرف بعض الشعراء رجوعاً إلى الوزن، وكأنما يهربون من الثقل المعنوي، من الوطأة، وطأة الحداثة التي تقتضي الحرية، حرية ثمينة ليست جامدة وليست مهملة وليست مجّانية، وعلى من يأتيها أن يكونن أقرب إلى القداسة ممّا  إلى السكون والتشرّد، وأقرب إلى الكهنوت وإلى درجة من العلوّ تلامس فضاء الحواس المطلق، والفضاء الذي به يكون النقاء وأصول الحياة الجديدة، والتي تستحق أن تكون الهدف والغاية الثمينة والعذبة في آن.

‏إنني أراني في المعمعة، ولعلّي جهدت وجاهدت كثيراً بحيث مارست فنون الرقص في قصائدي وفنون العمارة وفنون الموسيقى، فذهبت من طرف إلى آخر ومن حلبة إلى أخرى ومن لحن إلى آخر، ومن طريقة إلى أخرى، فلم أبق في حيّز واحد. وكان أنني في أكياس الفقراء، في 1959، انطلقت وحييت وأرسلت زفراتي، وكان أنني في الأخير من نتاجي، تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة (2004‏)، رقصت كما أشاء ولكن يشوبني ريح المأساة، وتمتعت باللغة بحيث وصلت إلى الجديد الذي يشتاقه كل شاعر والذي هو مفروض عليك، وأنت الآن في أشد اللحظات هوساً وطغياناً عليك، مفروض أن تنبش نفسك وأن تقع على الطراز وأن تكون الصيّاد وأن تكون في شعورك وأحاسيسك جبلة من الطراز الأرفع، وأن يكون عصرك متجسداً فيك وأن تكون الحداثة متجسدة فيك، ولهذا رأيتني عندما تُرجمت إلى الفرنسية، بعض الترجمة، أن نلت البركة والمكافأة أنني “أُعتبر بين الشعراء الأكثر أهمية”،  وغلبت بذلك بعض الشعراء الذين انتقلوا إلى هناك، إذ كان من شأن أني أحرزت قصبة السبق، وأنني من ما هو قصيدي وشعري عامة، أتسرّب إلى غيري، تسرُّب الماء النابع من الصخور، من تراب بلادي، ولو كانت المسافات طويلة وليست قريبة البتة. بل إنني كلما تُرجمت ظهرت ملاكي وبانت على حروفي علامات من أقصى التجربة، ومن أقصى الكلّ، ومن أقصى اللغة. وما أعذب ذلك إذ هو البرهان على أنني مؤسّس وأنني، في مسك الختام، قطفت المسك وعلكته وتركت الآداب في ذهول، وفي قلق المصير وفي محطات الاستفهام والتساؤلات.

إلى هناك وهناك في الرأي العام وفي الرأي الخاص، ومن باريس ومن الشاعر والناقد عبد القادر الجنابي، انطلق رأي ونما إلى أعلى والى مدى جيد من الرحابة. وهذا الرأي يقوم حولي وحول النصّ الذي لي في الشعر العربي الحديث وهو ما يقوله جان ج. كارما أنني أنا ذو فرادة وأصالة. وألوان لغتي وأسلوبي لا تبالي بما سبق ويسبق من الصمت الواقعي والرومنطيقي. وأنني ذو لغةٍ بسيطة واقعية ومنثورة نثراً ونثرات، وغنية التعابير القادمة من الشفهي اللبناني ومن أنني استعمل زهو اللسانيات الكلامية والنحو من بسيطة إلى ذات سذاجة شبيهة بما يعمد إليه الأطفال في أحاديثهم ويعمد كارما إلى توضيح أكثر، وهو ما نقله الجنابي في كتابه عن القصيدة العربية الحديثة الصادر في باريس عن اميزون نوف ولاروز سنة 1999 في باريس.

وهذا الرأي المتراكم والنافذ إلى حدّ قاطع يتصدّر ترجمات من تراثي وكتبي منذ “أكياس الفقراء” (1959).

ولعلّه ينطبق على نصوصي على روحها برمّتها حيث الانغام وإن يكن توقّف عند “سنجاب يقع من البرج” (1971).

***

(*) بعض مضامين هذه الاجوبة وردت في مقابلات عدّة لا سيما مجلة الأبحاث وذلك لتشابه الأسئلة فاقتضى التنويه.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *