بعد كوابيس انفجار مرفأ بيروت

Views: 653

عبد الله السنّاوي

لكلّ أزمة مُستحكِمة تاريخٌ يصعب تجاوز مواريثه في ما يحدث ويستجدّ من مآسٍ وكوارث سياسيّة وإنسانيّة. ذلك حال الأزمة اللّبنانيّة المُتفاقِمة تحت وهْج انفجار مرفأ بيروت، الذي دمَّر نصف العاصمة وروَّع أهلها وقوَّض ثقتها في مُستقبلها.

لم تنشأ الأزمة بتداعيات التدهور الاقتصاديّ وانهيار سعر صرف اللّيرة اللّبنانيّة وارتفاع معدّلات البطالة وغلاء أسعار السلع الأساسيّة.

هذه تجليّات الأزمة، لا الأزمة نفسها. ولا نشأت بتداعيات الانتفاضة اللّبنانيّة في 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام 2019 التي أُجهضت بالتوظيف السياسي الزائد لتصفية حسابات، أو خشية نتائجها على مصالح استقرَّت حتّى كادت تُزهق روح البلد وقدرته على البقاء.

وهذه أوضاع انسداد سياسي يصعب تجاوزه من دون تغيير في البيئة العامّة وبنية الحُكم نفسها. كان انفجار مرفأ بيروت تجسيداً لفشل الدولة بكلّ مكوّناتها والأطراف الفاعلة في مُعادلاتها.

تعود الأزمة إلى نشأة الدولة نفسها قبل مائة عام، حين أعلن الجنرال الفرنسي هنري جوزيف أوجين غورو “لبنان الكبير” دولةً مستقلّةً وأعاد ترسيم حدودها بقوّة السّلاح، التي قسَّمت الجغرافيا الواحدة إلى دولتَين: سوريا ولبنان. كان ذلك في أيلول (سبتمبر) من العام 1920 بعدما صَمتت مدافع الحرب العالَميّة الأولى وفق تفاهمات بريطانيّة – فرنسيّة جَرَت قبل أربعة أعوام (1916) وعُرفت باسم اتّفاقيّة “سايكس – بيكو”.

لم ينشأ لبنان بإرادة اللّبنانيّين وحدهم ولا هُم مَن أعلنوا دولتهم المُستقلّة. هذه حقيقة أولى ما زالت آثارها وظلالها مُمتدَّة حتّى اليوم في صلب الأزمة المُستحكِمة.

أرجو ألّا ننسى أنّ الدول الغربيّة الكبرى استثمرت في الصدامات الدمويّة التي نشبت منتصف القرن التاسع عشر بين طائفتَي الدروز والموارنة لطرْح فكرة إنشاء “إمارة كاثوليكيّة”، بشهادة القنصل الروسي في بيروت قسطنطين بازيلي، الذي كان موجوداً في قلب الحوادث وموثِّقاً لوقائعها: “لم تكُن العداوة الدينيّة سبب الاحتراب، بل نتيجة له”.

هذه حقيقة ثانية تكشف ما جرى من تفكيك وإضعاف للعالَم العربي استثماراً في ثغرات مُجتمعاته.

في العام 1932 بعد إعلان “لبنان الكبير” باثنَي عشر عاماً، جرى توزيع المَناصب الرسميّة والمَراكز العليا بين الطوائف وفق نسبة كلّ منها إلى التعداد العامّ للسكّان الذي أُجري وقتها. كانت النسبة الأكبر للمسيحيّين، غير أنّ النِّسب تعدّلت بعد عقود طويلة في ضوء ما أسفرت عنه الحرب الأهليّة اللّبنانيّة منتصف سبعينيّات القرن الماضي من حقائق وتوازنات عبّرت عن نفسها في اتّفاقيّة “الطائف” في العام 1989. وفق تلك الاتّفاقيّة أصبحت المُحاصَصة مُناصَفةً بين الطوائف المسيحيّة والمُسلمة.

باسم الديمقراطيّة التوافقيّة

من عصرٍ إلى آخر أعاد النظام الطائفي إنتاج نفسه حتّى استَنزف طاقته على البقاء من دون أن يُغادر مَواقع السلطة والنفوذ لتغلغل المصالح المُرتبطة به في بنية المُجتمع اللّبناني، كما في أهداف اللّاعبين الإقليميّين والدوليّين.

هذه حقيقة ثالثة تُخيِّم على المستقبل اللّبناني وتجعل من إلغاء النظام الطائفي مهمّة عسيرة.

على مدى مائة عام أعاد البلد تعريف نفسه مرّة بعد أخرى.

عند لحظة التأسيس بدا الهدف الرئيس هو إعادة رسْم خرائط العالَم العربي بالتقسيم وتقاسم النفوذ بين الإمبراطوريّتَين السابقتَين الفرنسيّة والبريطانيّة.

بمضيّ الوقت، اكتسب لبنان دَوراً أضفى عليه مكانته في عالَمه العربي، كمرآة لتفاعُلاته وصراعاته وأفكاره وأحلامه وإحباطاته. وبقدر ما استفاد من هذا الدور، دفع ثمنه باهظاً.

في أغلب سنوات تاريخه، عرف لبنان نفسه بلداً تعدّدياً ديمقراطياً. كانت ديمقراطيّته وطبيعتها على ما يبدو، عبئاً على مستقبله. باسم “الديمقراطيّة التوافقيّة” ألغيت الحقوق الأساسيّة للمُواطنين في اختيار حكّامهم ومساءلتهم وعزلهم.

وباسم شراكة جميع القوى السياسيّة بتعبيراتها الاجتماعيّة والطائفيّة المُختلفة في الحُكم من دون إقصاءٍ لطَرَف، أُلغيت من الجذور فكرة المُعارَضة النيابيّة والسياسيّة وتمّ استبدالها بالمُناكفات بحثاً عن حِصص أكبر في كعكة السلطة.

للديمقراطيّة التوافقيّة منطقها في تجنُّب الاحتراب الأهلي، الذي دفعَ فواتيره لبنان فادحاً من استقراره وسلامته، غير أنّها كرَّست النظام الطائفي وأضفت عليه مسحة حديثة مُخاتِلة.

إعادة تعريف البلد لنفسه تحت وهْج الانفجار تستدعي بالضرورة إعادة تعريف ديمقراطيّته وإلحاقها بالقيَم الدستوريّة الحديثة بعيداً من منطق المُحاصصات الطائفيّة.

في أيّ محاولة لإعادة تعريف الدَّور اللّبناني يطرح إرثه الثقافي والتنويري نفسه على محكّ الأسئلة القلقة.

قوّة لبنان في دَوره الثقافي قبل وبعد أيّ شيء آخر بحسبان عاصمته بيروت أكبر حاضنة ثقافيّة في العالَم العربي لكلّ ما هو جديد تفكيراً وإبداعاً وخَلقاً من دون حساسيّات وقيود مفروضة في باقي دوله.

لم يولَد ذلك الدَّور الثقافي في فراغ تاريخ، ولا كان اكتشافاً مُستحدثاً رافَقَ إعلان “لبنان الكبير” قبل مائة عام.

إنّ أيّة نظرة تاريخيّة على الأدوار التي لعبها المثقّفون والمُبدعون الذين ينتمون إلى هذه الرقعة من بلاد الشام خلال القرون الثلاثة الأخيرة، تُثبت عمْق إسهامهم في تأسيس رؤى جديدة وأساليب غير مُعتادة في فنون المسرح والصحافة والكتابة وفلسفة الحياة.

ساعدت ظاهرة شعراء المهجر أمثال “جبران خليل جبران” و”إيليا أبو ماضي” و”ميخائيل نعيمة” في إعادة بناء الذائقة الأدبيّة لدى قطاعٍ واسع من الجمهور الثقافي العربي.

تُدين النشأة الحديثة للصحافة العربيّة في مصر لروّادٍ من أمثال سليم وبشارة تقلا مؤسّسَي صحيفة “الأهرام”، وجرجي زيدان مؤسِّس “دار الهلال”، و”فاطمة اليوسف” مؤسِّسة مجلّة “روزاليوسف” وآخرين.

كانت القاهرة أكثر البيئات العربيّة تأهّباً لدخول العصور الحديثة، فيما توافرت للمثقّفين الشوامّ روح الريادة والمُبادَرة.

تداخلت التجربتَان الثقافيّة والفنيّة في القاهرة وبيروت، كأنّهما عاصمة ثقافيّة واحدة بذائقة فنيّة مُشترَكة، بخاصّة في مجالَي الغناء والسينما ألهمت العالَم العربي كلّه.

بقدر اتّساع مساحات حرّيات الفكر والإبداع، نجحت بيروت في احتضان قامات شعريّة عربيّة من حجْم محمود درويش ونزار قبّاني وأدونيس ورسّام الكاريكاتير الأبرز ناجي العلي، فيما جسَّدت فيروز بصوتها الفريد قدرة المدينة على إلهام معاني الحياة والقدرة على البقاء واجتراح المُعجزات.

ماكرون.. فيروز

لم تكُن محض مُصادَفة أن يُقرِّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو أن يُنصح من مُستشاريه بزيارة فيروز، قبل أيّ حوار مع الطبقة السياسيّة بمُختلف مكوّناتها.

قوّة فيروز في تعبيرها الفنّي عن وحدة اللّبنانيّين وإرادة الحياة عندهم.

كانت تلك رسالة رمزيّة لمَواطِن القوّة في لبنان، أنّهم أقوياء بالفنّ والإبداع، كما بالثقافة والإنتاج الفكري والصحافي والإعلامي.

تحت وهْج الانفجار المروّع في مرفأ بيروت تبدّت مَواطِن القوّة والضعف في مشهد واحد.

في الوجع الاجتماعي المُشترَك، اكتشفَ اللّبنانيّون مجدّداً أنّهم شعب واحد ومُعاناة واحدة ومصير واحد يتجاوز الطوائف والمَذاهب، وأنّ وحدتهم في مَيادين الغضب شرطٌ ضروري لنجاح الاحتجاجات في تحسين أحوالهم المعيشيّة والدَّفع بالبلد كلّه إلى مَسارٍ يلتحق بعصره في الحقوق الأساسيّة لشعبه كمواطنين لا كرعايا في دولة الطوائف.

كانت تلك نقطة قوّة أخرى لبلدٍ يحتاج أن يعرف نفسه من جديد.

في الوقت نفسه ارتفعت أصوات، بداعي اليأس، تُطالب بعودة الوصاية الأجنبيّة، كأنّ هناك مَن يريد أن يعرف لبنان على النحو الذي جرى قبل مائة عام بلداً تحت الانتداب الفرنسي.

الدعوة بنَصّها وتوقيتها تعبيرٌ عن عمق الأزمة، وأنّها ربّما تتجاوز أيّة محرّمات، كأنّ ضربة على الدماغ أفقدت بعض مكوّنات البلد اتّزانه السياسي والنفسي، بما قد يقوِّض السلم الأهلي بأخطر ممّا جرى في الحرب الأهليّة.

لم يعُد مُمكناً تدوير الأزمة وإعادة إنتاج نظام المُحاصَصة الطائفيّة، التي استهلكت زمانها ودواعيها وصلاحيّتها وباتت عبئاً على عصرها وسلامة النظر إلى مستقبل لا يُطاق.

بالقدر عينه يصعب على لبنان تجاوُز إرثه الطائفي بضغطة زرّ، أو بدفقاتِ غضبٍ في ميدان.

الغضب يؤشِّر على قرب نهاية طريقة في الحُكم، لكنّه لا يؤسِّس بذاته لجديدٍ قادر على شقّ طريقه إلى دولة حديثة يحكمها القانون والحقوق المُتساوية لمُواطنيها ويُخضِع الترقّي فيها لاعتبارات الكفاءة، لا بالانتساب إلى مُحاصصات الطوائف.

خيار الدولة الحديثة التي تنسخ المُحاصصات الطائفيّة خيار إجباري بلا بديل، أو شبه بديل، لكنّ الوصول إليه عسير.

الأفْدح أنّ أشباح حرب أهليّة جديدة قد تَمثل في المكان بالضغوط والتحريض السياسي والإعلامي.

أرجو ألّا ينسى أحد أنّ التحريض الإسرائيلي الزائد لأطراف لبنانيّة على الفلسطينيّين أفضى إلى مَجازر دمويّة وقتْلٍ على الهويّة واحتلال بيروت نفسها في العام 1982.

التحريض بغير تعقُّل بداعي تصفية الحسابات يُمكن أن يفضي إلى أشدّ الكوابيس قتامة.

بين عصرَين ونظامَين، أوّلهما أصابه التحلُّل بالعفن والآخر لم تتّضح توافقاته وإجراءاته يقف لبنان عند مُفترق طُرق، أن يكون أو لا يكون.

لا النظام الطائفي قادر على البقاء ولا مُغادرته سهلة فوق طُرُقٍ مُعبَّدة.

لم يكُن الضجر بالنظام الطائفي أمراً طارئاً اكتُشف فجأة في الاحتجاجات اللّبنانيّة، أو بأثر الانكشاف الكابوسي أمام ضربات الانفجار، فقد دأبَ عددٌ كبير من المثقّفين والمفكّرين اللّبنانيّين لعقود طويلة، ربّما منذ تأسيس الجمهوريّة في أربعينيّات القرن الماضي، على نقد ذلك النَّوع من الحُكم والدعوة إلى تجاوزه.

في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019 تحرَّك شيءٌ عميق أَخذ صفة الانتفاضة، أو الحراك، ضدّ الطبقة السياسيّة كلّها، لا يَعرف بالضبط ما يريده، لكنّه يعرف ما لا يريده.

كانت تلك أزمة إضافيّة لبلد يبحث عن بوصلة جديدة في حركته إلى المستقبل.

تحت ضربات الانفجار المروِّع استدعت الصُّور مجدّداً ضرورات إعادة تعريف لبنان لنفسه كدولة قانون وحقوق متساوية بين مُواطنيه يُواصل بها قدرته على إنتاج الحياة إبداعاً وخلقاً ونشاطاً تجاريّاً عُهد عنه.

بعد كوابيس انفجار المرفأ وانكشاف الطبقة السياسيّة، كما لم يحدث من قبل، بات ما كان يَتردّد في نطاقٍ محدود، وداخل نُخب بعينها، موضوعَ إجماعٍ وطنيّ صوته مدوٍّ ورسالته واصلة إلى المستقبل.

 

***

 (*) كاتب وصحافي مصري

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *