عبدالله الخوري… بين الشعر والمحاماة

Views: 806

وفيق غريزي

بدأت صداقتي به منذ عام ١٩٩٥واستمرت حتى وفاته. انه الشاعر عبدالله الخوري نجل الشاعر بشارة الخوري (الاخطل الصغير). عرف لدى الكثيرين كمحام بارع، ولدى القلة عرف كشاعر اصيل وعميق، وذلك لأن شهرة والده كبيرة ، فاًلقت بظلالها على شهرته هو.

 بصمات وراثية

لم يشجع الأخطل الصغير ابنه عبدالله يوماً على كتابة الشعر، بل كان يحذّره من أن الذي يريد أن يعيش فقيراً عليه تعاطي الشعر والأدب في هذه البلاد التي يزعم أهلها أنها بلاد الإشعاع والنور.

ولكن الأخطل حين شعر بالشوق للكلمة يتأجج في أعماقه، فتش عن مصير أبناء الشعراء الذين عاصروا الأخطل، فلم يجد أحداً منهم تعاطى الشعر.

وتساءل ماذا سيعطي إبن شاعر كبير كالأخطل الصغير؟ ولكنه رغم ذلك، سار في الطريق، وكان أول شاعر يرثي أباه في مهرجان أقيم في الأونسكو العام 1969 وقال يومذاك:

لم يخلق شاعر في الأرض شاعر

عاقرات في ربى البحر المنائر

بعدئذ شعر عبدالله الأخطل بأنه يريد أن يقول شيئاً. فقرّر ألا يتطرق الى موضوع تطرق اليه والده الأخطل، كي لا يكون نسخة كربونية عنه، وكي لا يسقط، ويكون سقوطه عظيماً. اعتقد صديقنا الراحل بأنه غرسة في بستان السنديانة الكبيرة التي هي بشارة الخوري “الأخطل الصغير” ولكنها غرسة لها خصوصيتها. أخذ من والده الشاعرية، والنغمية ومن لغته، ولكن بطريقة مختلفة.

شكل له إرث والده عبئاً مهولاً على كاهله، فإلى أي مقياس منه يمكنه أن يرفرف؟ قد يقرأه بفضله الكثيرون، وما قصدهم سوى المقارنة…

 إن الشعر الحقيقي لدى الشاعر عبدالله الأخطل، هو ان تنظر فيه، وتكتب عنه المجلدات والمقالات، ثم أن تتحاشاه كي لا تقع في التجربة. ومفردات الشعر، هي مفردات ضوئية، جديدة للإستعمال. والشاعر بنظره، هو نهر كبير، أو نهر صغير، يسقي الأرض التي تحتضنه، ولكنه لا يفرض عليها نوع الزهر والشجر الذي عليها أن تنبته؛ وفي رأيه هذا إشارة الى أنه على الشاعر الحق أن يترك للقارئ مجالاً لمشاركته في عملية الخلق والإبداع.. فيبتعد الشاعر عن السهولة المبتذلة وعن الخطابية الشعرية.

اين الشعر؟

 لا يوجد شعر.. بل يوجد شعراء وفق رأي شاعرنا الراحل. يوجد شعراء ومادة فنية تتنوع من واحدهم الى الآخر. الرسام الملهم هو “شاعر” في الرسم، والموسيقي العبقري هو “شاعر” في الموسيقى. والنحات الذي يجعل الصخر يتكلم هو “شاعر” في النحت. والقصيدة بالذات، هي شكل جامع لهذه الأشكال: إنها يجب أن تكون “جامعة الفنون الجميلة” بأسرها، بحيث يتوافر فيها الرسم والنحت والموسيقى، بالإضافة الى خلجات القلب وشطحات الخيال، وهمهمات التفلسف على الوجود، ولا يعني بذلك الفلسفلة.

وحسب رأي بشاره الأخطل فإن الشعر مثل الحب، والشاعر كالمسحّراتي، كل الجمالات التي يقولها موجودة في كل إنسان، ولكنها غافية، والتجاوب بين الشاعر والمتلقي لم يكن له وجود لو لم يكن عند المتلقي تلك الجمالات التي يوقظها الشاعر.

وكان شاعرنا ضد القصيدة الطويلة، ولكنه ليس ضد “المطوّلات” التي تعالج وقائع تاريخية وأحداثاً درامية، وقصيدته تميل الى الإختصار، لأن القصيدة نتيجة حالة نفسية لا يجوز أن يتجاوزها الشاعر. إن الإبتسامة لا تستمر اكثر من نصف دقيقة، والعين لا تدمع اكثر من خمس دقائق.

ولقد اختار لقب “عبدالله الأخطل” إنطلاقاً من الإرث الذي تركه الأخطل الصغير، وهذا ليس محصوراً بعائلته “الطبيعية” بل إنه يتعدّاها الى أجيال لبنانية وعربية، واختياره اسم “عبدالله الأخطل” إعلان لإنتمائه إلى العائلة الأخطلية المترامية الأطراف.

بين الكلاسيكية والحداثة

لقد أدخل عبدالله الأخطل الحداثة الى الكلاسيكية، وفتح مدرسة ليلية لكل المفردات وحرّرها من معانيها المستهلكة، وأعطاها أدواراً إرتاحت فيها.

البعض يعتبر الأوزان قيوداً، وهو اعتبرها أجنحة. المهم أن يكون للشاعر أجنحة للتحليق، والحداثة الشعرية فتحت عن غير قصد أبواب الحداثة في السن فأدخلت في التجربة الأبرياء من التجارب؛ أجنحة الحداثة التي يتحدثون عنها هي أجنحة دجاجة لتسقط لا لتحلّق، حسب رأيه.

وإزاء الفوضى الشعرية التي تشهدها حياتنا الثقافية، قال لي الراحل في احدى جلساتنا: “إني أحذرك يا صديقي، بأني سأطلق الرصاص على كل من يسميني شاعراً، لأن في عالمنا العربي حوالى سبعين مليون شاعر، فلا أريد أن أصبح رقماً من هذه الأرقام. هذه هي الفوضى، هذه هي السهولة التي يرتكبها الكثيرون بحق الموهبة والشعر الأصيل، هذه الفوضى أتت من الغرب الذي لم يكن تراثه تراثاً شعرياً. ولا شك أن النظامين الخليليين (نسبة الى الخليل بن أحمد الفراهيدي) هرّبوا الناس من الشعر”. الذين استهلكوا ويستهلكون “المعاجم اللغوية”.. ينظمون الشعر وليسوا شعراء مبدعين، وتقع على رقابهم حصة ضخمة من مسؤولية “تهشيل” الناس من الشعر والشعراء.

الطفولة والمرأة

الطفولة لدى عبدالله الأخطل، ذاكرة، والحدث لا يمكن أن يصبح شعراً قبل أن يصبح ذكرى، فشعر المتاريس والمواقف فوري الصدى عنده أجمل من الصوت لأنه يأتي من البعيد. الطفولة ذكريات متغلغلة في الانسان، والمرأة بنظره كنار ذهبي جميل يطمح لأن يصبح باشقاً بشعاً. المرأة هي مصدر كل الأشياء وتريد أن تكون شيئاً من هذه الأشياء.

خلّف لنا الشاعر عبدالله الأخطل، مجموعتين شعريتين هما: اليوم الأخير، وعمري ألف عام، وعن هذه الأخيرة واسمها يقول: “إن من يرث التراث يجمع الأعمار، ولا أعتقد أن طفلاً يولد وعمره أقل من ثلاثة ملايين سنة… فأنا كنت متواضعاً جداً عندما اكتفيت بألف عام”.

رحل عبد الله الأخطل، ذلك الإبن الذي حلّق في دنيا غير الدنيا خارج دائرة السلف. فكان شاعراً له خصوصية ونكهة مميزة. رحل جسدياً، ولكن شمس إبداعه ستبقى متوهجة في سماء الحركة الشعرية، لتبدّد الظلمات عن دروب حياتنا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *