المسافة بين المرفأ وفيروز

Views: 383

د. سعيد السريحي 

يقول الفرنسيّون “أعاد الكنيسة إلى وسط المدينة” حين يريدون وصْف ما قام به أحدهم من فعلٍ أعاد الأمور إلى نصابها، وصحَّح ما أعتراها من خَلَل، فمكان الكنيسة إنّما هو وسط المدينة، وحين تزيحها عن هذا الوسط مؤسّسات وأبنية وأسواق ومَيادين وشوارع، لا تمتلكُ مُفردةً ومُجتمِعةً مكانة الكنيسة وعراقة تاريخها، وما لها في القلوب من تقدير، فإنّ ذلك يعني أنّ ثمّة خطأ يحتاج إلى التصحيح، وتصحيحه أن نُعيد ترتيب خارطة المدينة وإعطاء الكنيسة حقّها الذي سلبته بقيّة المؤسّسات منها.

وحين كان الرئيس الفرنسي ماكرون يفتتح زيارته الثانية إلى لبنان في أعقاب انفجار مرفأ بيروت بزيارة السيّدة فيروز، فإنّما كان يعمل بما يُمليه عليه ذلك التعبير الفرنسي الآنف الذكر، فيُصحِّح ما طرأ على ترتيب الأولويّات في بيروت من خللٍ، مُعيداً ترتيب تلك الأولويّات التي شكَّلت صورة لبنان في الذاكرة العربيّة والعالَميّة كبلدٍ للفنّ والجمال والحُبّ والحريّة، وكأنّما كان يُذكِّر بما قاله حين افتتح فرع متحف اللّوفر في الإمارات حين أكَّد على أنّ الفنّ وحده قادر على إنقاذ العالَم ممّا انتهى إليه.

كان الرئيس الفرنسي بزيارته للسيّدة فيروز يغلق قوساً رسمه يوم أن افتتح زيارته الأولى في أعقاب انفجار مرفأ بيروت بزيارة المرفأ الذي قوّضه الانفجار، كان الرئيس الفرنسي يرسم خطّاً بين ما هو زائل ومُتهالِك في بيروت وما هو باقٍ وصامد فيها، يُعيد توجيه بوصلة العالَم نحو بيروت وكأنّما يبعث برسالة تؤكِّد أنّ ثمّة ما يستحقّ الحياة في هذا البلد الذي كان انفجار المرفأ فيه يُعلن أنّه في الرمق الأخير.

كانت أطلال مبنى مَخزن القمح في المرفأ تقف كشاهد قبر، جدرانه المُتهالِكة كانت سور مقبرة كبرى تفوح منها رائحة العفن الذي ينبعث من رمم تلك الطوائف والأحزاب التي تنازعت أيُّها أولى باغتصاب بيروت وأيُّها الأحقّ بسلبها حليّها وثوب عرسها، كانت أطلال الميناء قبراً جماعيّاً تنبعث منه رائحة العطن التي تفوح من أجساد المؤسّسات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة التي فشلت في حماية بيروت وكفّ أيدي القراصنة والبرابرة عنها.

كان انفجار مرفأ بيروت إعلاناً رمزيّاً عن اكتمال حلقة الحصار التي تُطوِّق لبنان، فمِن جنوبه يتربّص به الموت على يد الأعداء، ومن شرقه وشماله يتربّص به الموت على يد الأصدقاء أو من كانوا الأصدقاء، ولم يكُن للبنان إلّا نافذة واحدة تطلّ على البحر، طريق وحيد ينبسط على الماء، نافذة واحدة وأغلقها قراصنة البرّ وطريق وحيد وقطعه قراصنة البحر.

في طمْس التاريخ

المرفأ، قريباً من صخرة الروشة التي تنتصب شاهداً على رحلات الفينيقيّين حين كانوا يُخبّئون في أشرعة سفنهم الفنّ والجمال ويجوبون البحار، وكانوا حيثما رسوا رَست معهم تلك القيَم العليا للفنّ والجمال، كأنّما كان الانفجار مُحاوَلة لطمْس ذلك التاريخ العريق وقطْع علاقة بيروت مع البحر وإغراق آخر سُفن الفينيقيّين وأشرعتها التي خبّأوا فيها قيَم الفنّ والجمال.

انفجار المرفأ لا يخلو من دلالة، سابقة مرتَّب لها أو لاحقة معبَّر عنها، على رغبة متوحّشة لا تختلف عن رغبة متوحّشة تشبه رغبة مَن يغلق الأبواب والنوافذ ليخلو بضحيّته يفعل بها ما يشاء ولا يسمع أحد لها صوتاً أو يستجيب أحد لاستغاثتها، رغبةً في عزل بيروت التي كانت كلّ الطرق تؤدّي إليها وكأنّما هي روما العالَم العربي التي تقود إليها الطرقات والأشواق والأحلام.

انفجار المرفأ، آخر عقدة في الشَّرَك المنصوب لبيروت، آخر عقدة في الكَفَن الذي كانوا ينسجونه لها، مذ اشتعلت في أطرافها الحرائق حتّى أصبحت شوارعها ومَيادينها مزبلة كبرى للنفايات، آخر سطر في تاريخ جديد للبنان ينتصب على أطلال تاريخها القديم، آخر ضربة فرشاة في لوحة موغلة في التجريد، موغلة في العَبَث، تنقض كلّ صورة رَسَمَها العاشقون لها حين كانت بيروت تمشّط شعرها في مياه اللّيطاني وتترك لنسمات جبل صنّين إعادة بعثرته.

لم يكُن المُتآمرون على بيروت يقوّضون ميناءها بالتفجير ويكدّسون شوارعها بالنفايات ويذرّون رماد الحرائق على أسطح مبانيها، لم يكونوا يفعلون ذلك فحسب، وإنّما كانوا يقوّضون الحلم العربي الذي يبحر إليها صيفاً وينتظر الإبحار إليها شتاء، يذرّون الرماد في أعيُنٍ طالما حدّقت إليها بنظرات المُحبّين، وحين تفتقدها ترمق مَوقعها على الخارطة. الذين تآمروا على بيروت تآمروا على الحلم العربي حين كانت بيروت هي أقصى ما يُمكن أن تمنحه العاصمة للرعب في أحلامهم حين ينامون وتخيّلاتهم حين يستيقظون، كان العرب من مُحيطهم إلى خليجهم يحيون واقعهم كما هو، كما كتبه الله لهم أو عليهم، سعداء بذلك الواقع أو مُستغرِقين في الشقاء، غير أنّهم كانوا يصنعون من بيروت واقعاً متخيَّلاً يجبلونه من دبكة لبنان وأبيات الميجنا وصوت فيروز وموشّحات حليم الرومي وتعرّجات الموّال في عتابا يشدو بها وديع الصافي، حلماً توشّي حوافه قصائد سعيد عقل وأمين نخله والأخطل الصغير، ويحلِّق في فضاءات جبران خليل جبران وآفاق ميخائيل نعيمة، وتحلِّق في سماواته أسراب السنونو وندف الثلج المُتطاير من على قِمم صنّين شتاءً.

كانت بيروت ملجأ العرب حين تضيق بهم بلدانهم ويضيقون بها فأصبحت بيروت مدينةً تبحث عن ملجأ لها فلا تَجد؛ كانت بيروت مَنارة للحريّة، فأصبحت مدينة يتقاتل تجّار الرقيق على مَن يملك عصمتها ويستحلّ النوم معها على قارعة الطريق؛ كانت بيروت دار نشر تَعدّ للعرب ما يرتقي بهم وعياً وذائقة وحبّاً في الحياة، فأصبحت دار انتشار للمليشيات تعدّ القنابل والمُتفجّرات والمُرتزقة وتخبّئ عناقيد الموت في السراديب.

بيروت قبلة العرب

كانت بيروت قبلة العرب، الهويّة التي يتباهون بها حيناً والهويّة التي يُخبّئونها، كما يُخبّئون قصص غرامهم حيناً آخر، كان كلّ عربي يحمل إلى جانب هويّته الوطنيّة هويّة ثقافيّة، هي الهويّة اللّبنانيّة، هويّة تربط نَسبه بنَسب رقرقة نهر البردوني وشدو صباح ودبكة فرقة كركلّا وشموخ أعمدة بعلبك الستّة التي وقف أمامها لامارتين بخشوع ثمّ هتف: لو سقطت هذه الأعمدة الستة لفَقَدَ العالَم نصف جماله.

كانت بيروت قبلة العرب، يُخبّئون أسماء حبيباتهم في مغارة جعيتا ويحفرون الحروف الأولى من أسمائهم على جذوع شجر الأرز، وحين يذوقون مراراة الهجر، تُواسيهم أشجار الأرز وتمنحهم ظلّاً يحمل دفء الحبيبات وعطرهنّ.

كانت بيروت قبلة العرب، حيث تمطر السماء كُتباً ومسرحيّات وموسيقى وأغاني، ومع ندف الثلج تتساقط وصايا الحريّة والمحبّة والتسامُح والنضال ضدّ القبح والظلم والجهل.

وحين يتآمر المُتآمرون على بيروت، أحزاباً وطوائف وجماعات، فإنّهم إنّما يتآمرون على كلّ عربي، على كلّ ما هو جميل في كلّ عربي، كأنّما هُم، حين يغتالون أحداً، إنّما يغتالون جبران ونعيمة وعقل والأخوين رحباني، وكأنّهم حين يتركون النار تشتعل في أحراش لبنان يشعلون النار في شال فيروز وتنّورة صباح وطربوش نصري شمس الدّين، وحين يتركون النفايات تملأ شوارع بيروت، كأنّما هُم يلوّثون قِمم جبل صنّين ومَنبع نهر اللّيطاني. أمّا حين يعبثون بعروبة لبنان، فإنّهم بذلك يُقدمون على أقبح جريمة تزوير في التاريخ.

وعلى الرّغم من ذلك كلّه، ستبقى بيروت الحلم والجمال والفنّ والحريّة، بيروت فيروز والرحابنة، بيروت الشِّعر عصيّة وصامدة، سيذهبون جميعهم أولئك الذين تآمروا عليها وتبقى بيروت.

***

(*) كاتب وناقد من السعوديّة

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *