بيروت وأسئلة الكائن أمام خَطَر الفناء

Views: 677

د. إسماعيل مهنانة

لطالما كان الصراع في التاريخ صراع مُدن. ففي المدينة تتأسَّس القيَم، لأنّ المدينة بالتعريف هي مكان الاعتراف بوصفه الأُفق الذي تنزل منه كلّ القيَم الإنسانيّة. المدينة هي الفضاء العامّ الذي يزدهر فيه النقاش والجدل والفنّ، ومن فضاء النقاش يتأسَّس الاعتراف بالآخر، كمُحاوِر وكذات أخرى غير قابلة للمُصادَرة والاختزال، بل مَنبع لا ينضب من الاختلاف في الرؤية، ومن هذا الاعتراف تتأتّى قيَم الكرامة والاحترام التي تتوالد منها باقي القيَم الأخلاقيّة والجماليّة والسياسيّة، وباختصار، فالمدينة الحقيقيّة هي المدينة المولِّدة للديمقراطيّة.

أمّا المُدن التي تفشل في بناء هذا الفضاء العامّ، فإنّها سرعان ما تفتح المجال واسعاً أمام مُمارَسة السلطة المجرَّدة والقوّة العارية. في اليونان القديمة كان الصراع أيضاً بين أثينا، كمدينة للحوار والفكر والثقافة والاعتراف، وبين إسبرطة كمدينة للقوّة العارية والتسلُّط الاختزالي. وإذا لم توجّه تلك القوّة إلى قمْع رعاياها، فستصرف فائضها نحو مدينة الحريّة. وربّما تكون بيروت إحدى حفيدات أثينا في عصرنا. فقد كانت بيروت دائماً مدينة للفكر والفنّ والإبداع والكتابة والكُتّاب، ولهذا فهي اليوم هدف المُدن والعواصم التي بَنت مَجدها على القوّة وحدها.

وبيروت منذ أصلها الفينيقي ومليكها “عمونيرا” ورسائله إلى فرعون مصر أمينوفيس الرابع المعروف بإخناتون في مطلع القرن الرابع عشر ق.م. واسمها يتردّد في كلّ اللغات اللّاتينيّة والأوروبيّة الحديثة. أمّا في العصر الحديث، فقد كانت بيروت مَهداً للنهضة العربيّة الحديثة بما تأسَّس فيها من مَعاجم وقواميس ودائرة مَعارف (الموسوعة) ودُور نشْر حديثة ومَدارس وجامعات وحلقات أدب وفكر. لقد وضع الكتّاب والمفكّرون اللّبنانيّون في القرن التاسع عشر اللّبنة الأولى لكلّ نهضة عربيّة مُمكنة، أي مُجتمع المعرفة: تقعيد اللّغة العربيّة المُعاصرة، ووضْع المَعاجم والقواميس، ولكنْ أيضاً فتْح اللّغة العربيّة على اللّغات العالَميّة بوضْع المَناجِد وترجمة النصوص العالَميّة الكبرى للحضارة الحديثة. الأبهى من ذلك، أنّ كلّ تلك الإنجازات الجبّارة كانت نتيجة اجتهادات فرديّة وجهود بعض العائلات المُمجِّدة للمَعرفة مثل أُسر (السمعاني والبستاني، ومعلوف وغيرها).

وكما أنّ الجغرافيا هي التجلّي البارز لما يَعتمل في أعماق الأرض (الجيولوجيا)، فإنّ الثقافة أيضاً هي التجلّي الحرّ للأركيولوجيا. وهذا ما يفسّر تلك الفسيفساء الثقافيّة والروحيّة في لبنان، فتحت مُدنه أيضاً تتراصّ آثار الحضارات التي مرّت عليه، من الفينيقيّة والكنعانيّة والآشوريّة إلى الحضارة الرومانيّة والبيزنطيّة والعربيّة والإسلاميّة والمسيحيّة. وهي اليوم تتجلّى ليس في ذلك النسيج الاجتماعي المتنوّع والثريّ المُشبع بكلّ الثقافات الإنسانيّة فقط، ولكنْ أيضاً في شخصيّة الإنسان اللّبناني الذي يشكّل ذاكرةً حيّةً لكلّ الشعوب ومُتحفاً يحمل عجائب الاختلاف في جيناته. وربّما لهذا أيضاً لم تصبر شموليّات عصرنا على هذا النموذج المتمرِّد على مسطرة التشابُه، فنجدها اليوم تعمل ليلاً ونهاراً على طمْسه ومُصادرته كما تُصادر البضائع في أعالي البحر.

فالمتحف المفتوح على الاختلاف في لبنان، سرعان ما تحوّل إلى مَخبر تجارب في هذا العصر الإمبراطوري. لقد وجدت الإمبراطوريّات المُحيطة بلبنان الصغير مُختبراً للتجريب السياسي والإيديولوجي وأنابيب اختبار جاهزة لمُحاكاة كلّ نظريّات الأنثروبولوجيا الاستعماريّة المُمكنة. لهذا يُعاد تشكيل لبنان بعد كلّ حدث كبير: من سايكس بيكو إلى الحرب الأهليّة إلى ظهور “حزب الله” بوصفه دولة داخل دولة، إلى اغتيال بعض رؤساء الحكومات وزعماء الطوائف، إلى تفجير ميناء بيروت الأخير.

إنّ التنوّع الطائفي والثقافي إذا ما نَخَرَته سوسة الإيديولوجيا عادةً ما ينقلب إلى إشاعة تتمركز في الخوف من المُختلف وما يترتّب عن هذا الخوف من لجوء إلى الحماية الخارجيّة؛ وهذا ما حدث في لبنان. لقد تسرّبت سوسة الإيديولوجيا إلى تلك الانتماءات الصغيرة ودفعتها للبحث عن امتدادات لها في الخارج الإمبراطوري، وهو ما أَفسح المجال لأحصنة طروادة عديدة بلبوس محلّي بالتسلُّل إلى بيروت والعَبث بها.

من هنا تنحدر أسئلة فلسفيّة جذريّة ينبغي طرحها الآن: هل الطائفيّة الحاليّة هي نتيجة للتدخّلات الأجنبيّة أو هي سبب ناتج عنها؟ أم كلتاهما تتغذّى من الأخرى في حلقة مُغلقة جهنّميّة؟ وهل الطائفيّة هي قَدَر تاريخي يحول دون قيام وعي وطني يتعالى على الانتماء الطائفي أو أنّها مجرّد تشكيل سياسي قد يزول بحلٍّ سياسي جذري؟ ولماذا فشلت العلمانيّة في تنظيم الفضاء العامّ خارج الانتماء الديني في لبنان؟

في العام 1977 كتبَ الفيلسوف اللّبناني أنطوان جورج خوري كِتاباً بعنوان: “أضواء فلسفيّة على الحرب الأهليّة في لبنان” يدعو فيه للاعتراف الصريح بالطّابع الطائفي للصراع في لبنان حتّى يتمّ تجاوزه، ويُحلِّل ماهيّة الطائفيّة وجوهرها الفلسفي: “إنّ الحرب اللّبنانيّة هي حرب طائفيّة بين طائفتَين. لكنّ طابعها هذا صميميّ وعميق. أمّا على السطح فكَتب المُتحاربون شعارات كثيرة، منها الأصيل ومنها المُضلّل: بفتح اللّام وبكسرها. لذلك فإنّ الوصف التحليقي لهذه الحرب لن يتبيّن طابعها الإيديولوجي، كما أنّ المُرفرف فوق وجه مياهها لن يُفاجأ بدهاليزها ومَتاهاتها، ما لم يُحاول الهبوط إلى أعماقها”. فالطائفيّة بحسب أنطوان خوري هي جوهر في البنية الثقافيّة اللّبنانيّة، وجُذر راسِخ يُحدِّد “الحالات الاستعداديّة والمَواقف التلقائيّة” في شخصيّة اللّبناني ويجعله مُهيّأ دائماً لاستجابات سلوكيّة طائفيّة في القول والفعل. وإنْ كان الجوهر مَصدر الأعراض تتحدّر منه وتُمظهر جوهريّته فترتبط به عليّاً وتتضايف إليه لزوماً في تلاصُق نهائي، فإنّ الخلاص من الأعراض غير المُحبَّبة لا يغدو نهائيّاً إلّا بالقضاء على الجوهر. بذلك يتجوهر العرض ويتعرّض الجوهر، وتنقلب جميع المقاييس.

لا يقوم تحليل “الطائفي” إلّا في ضوء تحليل العلاقة الأساسيّة بين الفكر والإيديولوجيا. فالإيديولوجيا بالتعريف هي فكر معلول، أي محكوم بعلّة غريبة عن طبيعته، مُستتِرة أو جليّة، كأن يكون الفكر تابعاً للدوافع النفسيّة والغريزيّة أو معلولاً بالمصلحة أو بالشرط المادّي والاجتماعي لصاحبه، أو حتّى بالهُويّة والانتماء. لهذا، ومنذ أفلاطون، افترض الفلاسفة أنّ الفكر ينحدر من أُفقٍ آخر غير محسوس، أفق متعالٍ، وأنّ هذا الأُفق هو ما يمنحه صوابيّته وضمانته المَعرفيّة ووجاهة أحكامه وضرورة عقلانيّته. أمّا التفكير الطائفي، فهو تفكير معلول بعلّة من خارجه، لهذا فهو فكر مؤدلَج ومشروط ولا يُمكن الوثوق بأيٍّ من أحكامه. فالفكر يتعارض تعارضاً جذريّاً مع الطائفيّة، وهو سلبُها المُطلق.

وبقدر ما يحقّ للفكر أن يُشكِّك في الخطاب الطائفي ومَواقفه وتفسيراته للأحداث والتاريخ، فإنّ وظيفته الحاليّة تتحدَّد أيضاً بتأسيس نقد فلسفي جذري وبنّاء لهذا الخطاب، فلا يكتفي بمُماحكته وردّ أطروحاته، لأنّ ذلك قد ينزل بالفكر الفلسفي إلى الجدال والخطابة وإنتاج المزيد من النوابت، وإنّما على الفكر الفلسفي الآن أن يؤسِّس لأركيولوجيا الخطاب الطائفي. تنهض هذه الأركيولوجيا (الحفريّات) بمهمّة الكشف عن الآليّات والتقنيّات التي تُنتِج الخطاب الطائفي وتجلية الأرضيّة السيكولوجيّة والأنثربولوجيّة التي أوجدت ذلك الخطاب.

فالخطاب الطائفي مثلاً، بقدر ما يتغذّى على الخوف، يُعيد أيضاً إنتاجه باختراع العداوات الوهميّة، وبقدر ما يتغذّى على الماضي، يُعيد أيضاً كتابة التاريخ واختراعه من جديد، بتقنيّة “الإظهار والإخفاء”، أي إبراز الوقائع التي تخدم رؤيته وطمْس الوقائع التي تفنّدها. كما يَنزع الخطاب الطائفي دوماً إلى بناء السرديّات الكبرى، سرديات للخوف وأخرى للمؤامرة وأخرى للتبرير وعلامة تلك السرديّات المُخترعة هي تلك الأقنعة التي يتخفّى خلفها الطائفي في كلّ مرة.

“في ذروة الخطر ينمو ما ينقذ..” يقول الشّاعر الألماني هولدرلين. فربّما يكون انفجار ميناء بيروت جَرَسَاً من شأنه أن يوقِظ وعياً لبنانيّاً جديداً. فبالتحديق مليّاً في التهديد الوجودي ينكشف العدم أمام الكائن، ويجبره على مُراجَعة فائض القناعات الثقافويّة والنوابت المتطفّلة على قضيّته الأساسيّة، قضيّة الوجود كما لخّصها سؤال هاملت: “أن تكون أو لا تكون”. ففي التاريخ المُعاصِر سبقَ انفجار بيروت انفجارات شبيهة كانت “هيروشيما” آيته الكبرى في عالَمنا، وقد أدّى تفجير هيروشيما فعلاً إلى زلزال عالَمي في كلّ العلاقات الإنسانيّة، وكلّ النظريّات السياسيّة والديبلوماسيّة، بل كان تفجير هيروشيما إعلاناً عجيباً عن ميلاد عصر جديد، عصر السّلام الذّري. فقد أَدرك الإنسان حينها أنّ الطُّرق التقليديّة في الاقتتال البشري قد انتهت، وأنّ أيّ حرب جديدة في العصر الذرّي، من شأنها أن تُفني النوع البشري بأسره، وعليه يجب تدبير طريقة سِلميّة في النزاع وإعلاء فكرة “البقاء” كقيمة عليا تؤسِّس كلّ القيَم الأخرى.

لا شكّ أنّ تفجير ميناء بيروت جاء أيضاً في سياق عالَمي خاصّ، سياق جائحة كورونا التي تعمل منذ أكثر من ثمانية أشهر على إعادة توزيع الخارطة السياسيّة والجيو- ستراتيجيّة العالَميّة من جديد. وإلى الآن، لا يزال الغموض يلفّ مَلامح هذه الخارطة؛ لكنّ جميع الشعوب صارت تحسّ بأنّها مُهدَّدة فعلاً في وجودها إذا فشلت في تعبئة كلّ طاقاتها الوطنيّة، كما عبَّأتها في مُحارَبة الجائحة. كما أَدرك الجميع أنّ “البقاء” الذي طالما تمّ نسيانه تحت طائلة الكماليّات والرفاهيّة، ليس مضموناً بشكلٍ نهائي، كما كان يُعتقد. وربّما يكون اللّبنانيّون أكثر الشعوب تحسُّساً للخطر الوجودي، بما كابدوه خلال هذه الأزمة من انهيارات متتالية.

ومن هذا الاستشعار الوجوديّ لخطر الانقراض قد يولَد أيضاً ويَنمو ما يُنقذ لبنان.

***

(*) كاتب وأكاديمي من الجزائر

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. التفسير الوحيد لهذه المعرفة المركبة التي تنفجر في وجهي في كل نص أقرأ للمفكر الجزائري إسماعيل مهنانة، أنه يكتب نصوصة للحكمة الأولي ولأنه فيلسوف ومحب للحكمة فنحن نشهد منجاته مع هذا الكيان، كما تحمل المقالة كمية رهيبة من الإنسانيات منها الأمل والحنين للبنان أتوقع أنه إشتاق لها لهذا تعتبر جملته الأخيرة دعاء، يمكن تأويلها كوني يالبنان بأمان سوف أزورك.كل الأمنيات بالخير والأمان لهذا البلد الجميل و للإسماعيل مهنانة فلتعد لك إمنياتك وتحميك أيضا.