مِنْ دلالاتِ تَحَوُّلاتِ لُغَةِ النَّصِّ الرِّوائيِّ على فاعِلِيَّةِ الزَّمانِ المُجْتَمَعِيِّ (الحلقة الخامِسَة والأخيرة) قراءةٌ في الدَّلالات المُجْتَمَعِيَّة لِلُغةِ النُّصوص

Views: 492

الدكتور وجيه فانوس

(دكتوراه في النَّقد الأدبي/جامعة أكسفورد)

يُمْكِنُ الملاحظةُ أنَّ الشَّخصيَّةَ الأساسَ، في كُلِّ واحدٍ من النُّصوصِ المُختارةِ،، مِن رِواياتِ “الطَّاهِر وَطَّار”، شَخْصِيَّةُ أُنْثى؛ وهي أُنْثى حُبِلى بالدَّلالاتِ، فلا تقتصرُ دلالةُ حضورِها على أُنُثويتِّها، وحسب؛ بَلْ يُمكِنُ لهذهِ الدَّلالة أنْ تتوسَّعَ لِتَكونَ، على سبيلِ المِثالِ، ولَيْسَ الحَصْرً،”الذَّات” أو “الأرض” أو “الوطن” أو “الطُّموح”.

الطَّاهر وطَّار

 

“الأُنْثى”، ههُنا، حضورٌ مُنْفَتِح، وغاية النَّصِّ تقديمُ ما لدى الرِّوائي من أمور حول هذه “الأنثى”. إنَّ كلاًّ من “رُمَّانة”، في”الطَّعنات“، و”العنَّابيَّة” و”حياة النُّفوس” في “عُرس بغل“، و”زهيرة” في “الشَّمعة والدِّهليز” تُمَثِّل عدداً لا بأس من التَّجليَّات المجتمعيَّة؛ فهي:

1)الأُنْثى التي لم تتمكَّن مِن أنْ تَكونَ ذاتَها أبداً، رغم شوقِها إلى تحقيق وجودِها.

2)حقيقة ما في الإنسانِ الجزائريِّ، في سَعْيهِ إلى التَّخلُّصِ من كُلِّ ما ليسَ مِن حقيقةِ جَوْهَرِهِ؛ باحثاً، بذا، عن حقيقةِ ذاتِهِ.

3)الوطن بكلِّ سَعْيِهِ، عَبْرَ الاستقلالِ وسُلطةِ دولَتِه المُسْتَقِلَّةِ؛ إلى اكتشافِ حقيقةِ كَينونَتِه، ومُعايَشَةِ مُعاناةِ الوُصولِ إلى تحقيقِ هذهِ الكَينونَةِ،مِن خِلالِ مُعايَنَةِ الواقعِ ومُعاناةِ ظُلُماتِهِ.       

لوحة تشكيليَّة معاصرة لامرأة جزائريَّة؛ للفنَّانة نانسي كام

 

المُلاحَظُ، كذلكَ، أنَّ “الآخرَ”، في النَّصِّ المُختارِ، مِن كُلِّ واحدةٍ مِن الرِّواياتِ الثَّلاثِ، يَشْغُلُ احتمالاتٍ واسعةٍ في تَمْثيلِهِ؛ ولعلَّ مِن أبرز هذه الاحْتِمالاتِ:

  1. علاقَةُ “الذَّكرِ”معِ”الأُنثى”، عَبْرَ الاستغلالِ أو المُساعدة.
  2. علاقَةُ “الجزائريّ”مع ذاتِهِ، وسَعْيِهِ إلى التَّفاعُلِ مَعَ حقِيقَة ذاتِه. 
  3. نظرةُ “المواطنِ”إلى حقيقةِ الوَطَنِ، وطبيعةِ ما يَنْهَصُ عَلَيْهِ مِنْ أجهزةِ سُلْطَةٍ وَقِيَمٍ.

     

 

 إنَّ قِراءةً في الدَّلالةِ المُجْتَمَعِيَّةِ لِلُغَةِ هذه النُّصوصِ، تُشيرُ إلى عَدَدٍ مِنَ الأُمورِ؛ لَعَلَّ مِن أبرزها:

1)أنَّ الأُنْثى، التي لَمْ تَكُنْ قادرةً إلاَّ أنْ تكونَ بغياً مُسْتَغَلَّةً، في نَّصِّ 1969؛ ظلَّت بغياً، في نَصِّ 1978؛غَيْرَ أَنَّها أَضْحَت، ههُنا، بغياً مُستقلَّةً بِذاتِها، لها مَن يُديرُ أعمَاَلها، مِن جِهَةٍ، ويُحبها، مِنْ حِهَةٍ ثانِيَةٍ، لِشَخْصِها ولِجَوْهِرِها النَّفْسِيِّ، أكثر مِمَّا يُحِبُّها لِظاهرِ جَسَدِها. وتشيرُ هذهِ القراءةُ، كذلكَ، إلى أنَّ الأُنثى في نصِّ 1996، لَمْ تَعُدْ بغياً على الإطلاقِ؛ لقد صارت أُنثى تَعْرِفُ كيفَ تُحافِظُ على شَرَفِها الأُنْثَويِّ، مِنْ غَيْرِ ما ضعفٍ أو ذُلٍّ، بل وتَعرف كَيْفَ تحُاوِرُ الآخَرَ، الذي يَفْرَحُ لِقُوَّةِ حُضورِها ويَسْعى إلى التَّعامُلِ معها بِما يُقوِّي هذا الحُضور ويُعزِّزهُ بِرَبْطِهِ بِأصَالَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ.

 

2)أنّ الجَسَدَ، وما قد يَرتبطُ بهِ مِن لَذَّاتٍ مادِيَّةٍ رَخِيصَةٍ مُبْتَذَلَةٍ، هُوَ المُهَيْمِنُ على نَصَّيْ 1969 و1978؛ في حين إنَّ المُسْتَقْبَلَ وشُؤونَ الهُوِيَّةِ الثَّقافِيَّةِ تُهَيْمِنُ على نَصِّ 1966.

فتاتان جزائريتان تشاركان في معارك استقلال الجزائر

 

3)أنَّ الآخرَ تَحَوَّلَ مِنْ مُسْتَثْمِرٍ قَذِرٍ، في نص 1969، إلى مُساعد متيَّم في نص 1978، ليَصير صديقاً معجباً ومُساعِداً في نَصِّ 1996.

4)إنَّ الإحساسَ، الذي لَمْ يَتَجلَّ إلاَّ بِالمَرارةِ والوحدةِ والسَّجْنِ، في نَصِّ 1969، أصبحَ إِحْساساً بِالقُوَّةِ والشَّوْقِ والحُبِّ والاشْتِهاءِ، فَضْلاً عَنِ القُدْرَةِ على تَسييرِ الآخَرينَ والحاجةِ إِلَيْهِم، في نَّصِّ 1978؛ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى ثٍقَةٍ واضحةٍ بِالنَّفْسِ، في نَصِّ 1996.

5)أنَّ الفاعليَّةَ المُجتمعيَّةَ،وقد تمثَّلت في نَّصِّ 1969، بتجارةٍ للرَّقيق الأبيض؛ باتت، في نَّصِّ 1978، إدارةً ناجحةً لِدارِ بَغاءٍ، تمكَّنَت مِن التَّحوُّلِ، في نَصِّ 1996، إلى حِوارٍ جِدِّيٍّ ورَصينٍ وواعِدٍ بِبِناءِ مُسْتَقْبَلٍ وَاعٍ وَمَسْؤول.

6)أنَّ العَيْشَ، الذي ظَهَرَ وكأنَّهُ دوامةُ مِنَ الشَّقاءِ، لا تَنْتَهي، في نَصِّ 1969؛ تَحَوَّلَ إلى سَعْيٍ لِتَحْقيقِ هَدَفٍ، وَلَوْ غَيْرِ مُجْدٍ، في نَصِّ 1978؛وصارَ، في نَّصِّ 1996 لِقاءً بَيْنَ المُثقَّفِ الواعي وابْنَةِ الشَّعبِ المَسْؤولةِ عَن ذاتِها ومُجْتَمَعِها.

لوحة “العزلة والانفتاح على الخارج” للفنان التَّشكيلي الأميركي إدوارد هوبر (1882-1967)

 

الخلاصةُ الأشدّ سطوعاً للدَّلالاتِ المُجْتَمَعِيَّةِ، في هذهِ النُّصوصِ، تُفيدُ أنَّ ثَمَّةَ مساراً يؤكِّد حصولَ تغيُّرٍ فعليٍّ في المجتمعِ الجزائريِّ؛ أو أقلُّهُ، في فَهْمِ الكاتِبِ لِوجودِ هذا المُجتمعِ ومساراتِ رِحْلَتِهِ باتِّجاهِ مُسْتَقْبَلِه. ومِنَ الواضحِ، في هذا المجالِ، أنَّ هذا المَسارَ التُّغييريَّ لَمْ يَحْدُثْ فجأةً؛ بَلْ صارَ خِلالَ عددٍ مِنَ المراحلِ الانتقاليَّةِ، التي تَنْفي الطَّفرَةَ، وتُشير إلى مبدأ التطوُّرِ الطَّبيعيِّ في تَحَقُّقِ الوجودِ، عَبْرَ فاعليَّةِ الآتي مِن الزَّمَنِ، أو السَّعيِّ إلى تَحقيقِ الحُلم/الأُمْنِيَةِ. وفي هذا، حُكماً، ما يشهدُ لصحَّةِ مَقولَةِ “هيدجر”،المذكورةُ آنِفاً في نطلعِ هذهِ الدِّراسةِ، مِن أنَّ الهَمَّ “sorge” يُشَكِّلُ الطَّابعَ الأساسَ للوجودِ الإنسانيِّ، وإنَّه الفاعليَّةُ الأساسُ لتحقيقِ وجودِ الإنسانِ، من خلالِ ارتباطِ هذا الإنسان بِفَهْمِهِ لِمستقبَلِهِ ورؤيتِهِ لهذا المُستَقْبَلِ. فَمِنَ الطَّبيعيِّ، أنَّ الجزائريَّ، لَمْ يَخُضْ ما خاضهُ مِنْ تضحياتِ العملِ الثَّوريِّ ونضالاتِهِ ومساعِيهِ التَّغْيِرِيَّةِ، إلاَّ سَعياً وراءَ مُسْتَقْبَلٍ أفضل مِنْ الذي كان. وحقيقةُ حالِ هذهِ النُّصوص المُعتمدةِ، مِنْ رِوايات “الطَّاهر وطَّار”، في دَلالاتِها المُجْتَمَعِيَّةِ، تُوَضِّحُ هذا الأمرَ وتُشَدِّدُ على مَقولاتِهِ.

        إنَّ تَعَمُّقاً أكثرَ غَوْصاً في المجالاتِ الدَّلاليَّةِ المُجتمعيَّةِ لهذهِ النُّصوصِ، يُمْكِنُ أنْ يقودَ إلى إضاءاتٍ كبيرةٍ على طبيعةِ العَيْشِ المُجْتمعِيِّ الجَزائريِّ؛ أوْ، على الأَقَل، على ما فَهِمَهُ “الطَّاهِر وَطَّار”، مِنْ طَبيعةِ هذا العَيْشِ، ورَغِبَ في تَصْويرِهِ عَبْرَ نُصوصِ رِواياتِه.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *