أنا البِناءُ، أنا البَنّاءُ

د. غادة السمروط

 كثيرًا ما أحاول نصّا، فتستبدّ الظّلمة بالورقة! لكنّ القلم عنيد، يأخذ طريقه على السّطور، يعلو ويهبط, يتريّث حينًا، وحينًا تهطل عليه الكلماتُ مبلّلة، فتضيع تقاسيمها وتتداخل في بعضها. تحاول كلّ واحدةٍ أن تنهضَ من الذّوبان والضّياع، أن تستظلّ شمسًا ليستقيمَ عودُها، فلا تُفلح!

 هي لا معنى تأخذه ما لم تأخذ بيد أختها، ولا معنى لأختها ما لم تأنس بجوار أختها. هي الكلماتُ لا شمسَ لها ما لم تكن هي الشّمسُ، شمسٌ مبلّلة، يتآخى فيها الشّعاعُ مع الشّعاع، فتكون عندها شمسًا تُدفئ، عينًا تشعّ معانيَ.

 وأراني تحتها أحاول أن أُمسِك بواحدةٍ علّ سبحة المعنى تأتي بثانيةٍ وثالثةٍ وأخريات، فأُفلح في بناء الأفكار. لكنّ الكلماتِ رافضةٌ، تستعصي على الانضباط. أنا أريد وصلًا وهي تريد فصلًا، أريد جمعًا وتريد حِلّا، أحلم بالسّكنى وهي بالفرار، أريد سكينةً وهي تريد مشادّة.

     ما بالها الكلمات لا تستقيم في معنى ولا تتوق لبيان!

    هل تحلم بشاطئٍ تستحمّ فيه، تغتسل ملحًا، وتعود إليّ نقيّة، فتحسن الجوار في الشّكل وفي المضمون، فيحلو عندها البناء وتعلو معانيه إلى الضّوء ؟ أم أنّها تقبع عاليًا في خشوع صلاةٍ، في خليّة درويشٍ، تفنى في رقصه قبضًا وبسطًا، وتبقى في تأمّله سمعًا وذكرًا ؟

     وكثيرًا ما أتوه بين الكلمات، تهطل عليَّ، توقظني، تطرق وعيي، تسير بي، تدور وتستدير، تعلو وتهبط، تصطفّ دوائرَ وخطوطًا، مستقيمةً ومائلة. تأخذ بيدي، تلحّ بأن أحملها باقة أنظمها على وقع خيالي. تناديني للسّفر في ليلها ونهارها، في حركتها وسكونها. فآخذ منها ما يحلو لي في رسم الخيال والأفكار. أَشيدُ بها نصوصًا تشع إشراقًا، وتتعمّق بحثًا، وأحوك بها حجابًا يقيني من نار الجهل، يحلّق نورًا في فضاء العتمة.

     فأراني عندئذ يأخذُني العجبُ، ما بها الآن هذي الكلمات، سخيّة، وفيّة، نقيّة، سائلة، خصبة، مطواعة ؟

 هي بالأمس أوصدَتِ الأبواب، ورفضَتِ الامتثال للقلم، واليوم يحملني سيلُها الهادئ، يعبرني طائعًا، فأنهَلُ منه وأملأ خوابي الكتابة حتّى انتشاء القلم!

 أهي الكلمات تسعى في البناء، أهي بَنّاءٌ يفوز بالبنيان حجرًا حجرًا، جملةً ونصًّا، صورًا ومعنًى؟ أم هي الِبناء؟

 لا، ليس للكلمة أن تفوز أو تفشل، تبني أو تهدم!

أنا البِناءُ، أنا البَنّاءُ، أنا الكلمةُ !!