مرفأ بيروت: بين تاريخٍ ناصِع ومُستقبلٍ مجهول

Views: 668

حسن شامي

مَن يرى اليوم أطلال مرفأ بيروت التي راكمها الانفجار الكارثيّ مساء الرّابع من آب (أغسطس) 2020، له أن يتساءل ما إذا كان هذا الصرْح العريق قد فَقَدَ مَكانته إلى غير رجعة أم لا؟

سؤال يُطرح، لأنّ مرفأ بيروت ليس مجرّد ميناء على شاطىء المتوسّط، بقدر ما هو رمزٌ لحقبة ناصعة من تاريخ لبنان، يكتنز، في مَوقعه ودَوره، الكثير من عوامل ازدهار المنطقة العربيّة ونموّها التجاريّ والاقتصاديّ والماليّ، حيث رَسَت عند رصيفه مَراكِب الوصْل المتين بين شرق المتوسّط وغربه. وما يستدعي السؤال، هو أنّ الدمار الهائل بدا وكأنّه قضى في ثوانٍ على تاريخٍ حافل بأكمله، في وقتٍ تَضافَرَ عامل الدمار هذا مع عاملٍ داخليّ بالغ السوء تمثَّل بانهيار القطاع المصرفيّ، ركن الاقتصاد اللّبنانيّ الركين، ومع عاملٍ إقليميّ بالغ التأثير، هو التطبيع.

على مدى ما يزيد على قرن ونصف القرن من الزمن، مرَّ مرفأ بيروت بحقبات ومَراحل مُختلفة، حتّى بلغ الأهميّة التي وصل إليها. كان افتتاح قناة السويس إعلاناً لبيروت المرفأ والمدينة “بوّابة” على الشرق، لكنّ الأهميّة الحاسمة للمرفأ لم تُكتسب إلّا بعدما تحوَّل العرب عن مرفأ حيفا إثر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. ولعلّ من هذا التحوّل المأسويّ في المنطقة العربيّة تبدأ الحكاية الفعليّة لمَجْد مرفأ بيروت ودَوره.

ذلك أنّه وبعد نكسة العام 1948، وفيما كانت الدول العربيّة تنحو في عددٍ منها منحى الانقلابات، وتغيير نُظم الحُكم، وتقييد حركة الاقتصاد والأعمال فيها، كان النّظام اللّبناني ينتهج مَساراً مُختلفاً، مُعتمداً نظام اقتصاد السوق وصيانة الحريّات العامّة وحريّة حركة رؤوس الأموال ونظام السريّة المصرفيّة.

في السرد العادي يستطيع الراوي أن يتحدّث عن حجْم الأعمال والمصالح التي نمت بين لبنان ودُول المَشرق العربي (ومَغربه)، ودائماً سيَجد أنّ معظم ذلك تمّ بفضل وجود مرفأ بيروت، ومن خلاله؛ إلّا أنّ هذا السرد يبقى قاصراً عن تبيان مدى التمازُج في العلاقات اللّبنانيّة – العربيّة ما بين المَصلحي المباشر والتكامُل في مَيادين أخرى.

بعدما كانت مدينة بيروت مَركزاً تجاريّاً لعائلات لبنانيّة اغتنت بفضل تجارة الحرير وتطوُّر أعمالها ومُبادلاتها، تحوَّلت مع الطفرة النفطيّة في ستينيّات القرن الماضي إلى مَركز مالي، تتحرّك فيه ثروات النفط العربي ورجال أعمال لبنانيّون وسوريّون وفلسطينيّون وعراقيّون، ازدهرت أحوالهم بفعل المشاريع الجديدة التي كانت دُول الخليج باشرتها، وكانت تعتمد دائماً على التسهيلات التي يؤمّنها مَوقع بيروت، المدينة والمرفأ والمطار. وقد تكاملَ ذلك كلّه في إطار علاقات سياسيّة متينة بين لبنان والخارج عموماً، ودُول المشرق العربي تحديداً، تقوم على الخصوصيّات بكلّ ما تعني كلمة خصوصيّة من معنى.

هذا التكامُل حصلَ بفضْل الطابع المُتميّز لبيروت التي كانت واحة للحريّات العامّة، دار نشر ومنصّة نشاط سياسي متعدّد الأوجه والتيّارات، مُتاحَة لكلّ باحث عن مكان يُمارس فيه قناعاته، ويَجد مُناصرين له أو خصوماً، يُقارعهم من دون خوف. وغنيٌّ عن القول إنّه ما كان لهذا الجوّ من الراحة والدِّعة ليكون بمَعزلٍ عن اعتماد نِظام اقتصاد السوق والسريّة المصرفيّة والقوانين المَرِنة في التعامُل مع الخارج، وكلّ ذلك بفضل مَوقع بيروت المالي والتجاري عربيّاً، وفي القلب منها مرفأها.

قبل أن تكون بيروت المدينة المُنفتِحة، كان مرفأها الأساس، بل يُمكن القول إنّ بيروت المدينة التي اكتسبت ذلك الألق الذي كان لها في الخمسينيّات والستينيّات والنصف الأوّل من سبعينيّات القرن الماضي، لم يتحقَّق لها ذلك بمعزل عن نموّها وتطوّرها كمركز تجاري انطلاقاً من مرفأها.

.. وللمرفأ تاريخ يستحقّ أن يُروى

في بقعة مَحميَّة من رياح الجنوب الغربي، تقع وسط الخليج، وجدَ روّاد البحر قبل قرون طويلة ملاذاً آمناً لمَراكبهم، تؤوب إليه من أسفارها المُختلفة المآرب.

مرَّ زمنٌ والمرفأ الهادىء يُرسِّخ مَكانته بهدوء، مَوئلاً للسفن العابرة، كما تلك التي تستوطن بيروت التي لم تكُن سوى مدينة صغيرة، لم تتّخذ أهميّتها بعد… إلى أن جاء الاحتلال المصري للبنان (1831 – 1840)، ووجدَ الجيش الغازي المؤلَّف من ثلاثة آلاف في الميناء الهادىء المكان الأنسب للنزول إلى الشاطىء، ومع الاستقرار هناك بدأت أعمال بناء الأرصفة والمَراسي وتكاملت مع المنشآت الأخرى، بما فيها “كرنتينا” لحجْرِ المُسافرين المُصابين.

“الاكتشاف المصري” لأهميّة المَوقع البحري الذي أصبح لاحقاً ذلك المرفأ المرموق، كان البداية التي فتحت الأعيُن على بابٍ في شرق المتوسّط مشرَّع على الشرق العربي. باب للتجارة وتزويد الداخل بما يلزم من سلع وبضائع، اتَّسع على مرّ الزمن. افتتاح قناة السويس عام 1869، جعلَ من بيروت نقطة الدخول الرئيسة للبضائع العالَميّة إلى الداخل العربي، وقد سهَّل ذلك شقّ طريقٍ بريّة تربط بيروت بدمشق وتتكامل مع خطوط سكّة الحديد التي بدأ مدّها في المنطقة العربيّة.

خلال ما يزيد على مائة وخمسين عاماً منذ اكتشاف أهميّته على يد ابراهيم باشا، مرّ مرفأ بيروت بمَراحل ومِحن، وكان دائماً مَوضع تنازُع للقوى والمَصالح. لكنْ وبعد كلّ ظرف كان المرفأ يستعيد نشاطه وبقوّة أكثر… حصلَ ذلك بعد حرب العام 1967 وسنوات الحرب الأهليّة في لبنان (1975 – 1990) التي شهدت الغزو الإسرائيلي للبنان (1982) وحرب تمّوز (يوليو) 2006، وسلسلة لا تنتهي من الأحداث.. فهل انتهى هذا التاريخ مع ما حدثَ يوم 4 آب (أغسطس) الماضي، وحانت الفرصة السانحة كي يبدأ تاريخ جديد مع مرفأ حيفا الإسرائيلي؟

الجواب البديهي أنّ الحياة تنبذ الفراغ. ولا جدال في نتيجة المُباراة على ملء هذا الفراغ بين مرفأَي حيفا وبيروت. لكن هل تنتهي الأمور بإسدال ستار الإهمال على “مرفأ العرب”؟

التحدّي مزدوج، تتداخل فيه العوامل المُستجِدّة عربيّاً مع تلك المُتعلّقة بالشأن اللّبناني. وما يخصّ لبنان يجعل المسألة أكثر صعوبة. ذلك أنّه وخلال السنوات الأخيرة، شهد لبنان تطوّرات في نهج السلطة، أَبعَدَ البلد عن محيطه العربي عموماً والخليجي خصوصاً، فيما كانت البنية الإداريّة والمؤسّساتيّة في البلاد تتهافت تحت وطأة الخلافات السياسيّة وعلى المُحاصَصة في المَواقِع والمَغانِم، ما أثَّر ببالغ السلبيّة على المَراكز الرئيسة في لبنان، كالمرفأ والمطار، اللّذَين فقدا الكثير من حُسن السمعة والفعاليّة اللّذَين كانا لهما.

الحاضر.. التحدّي

إذا كان مرفأ بيروت في الذاكرة عنواناً لانفتاح لبنان ودَوره في ازدهار المنطقة، فالمؤسف اليوم أن يكون دماره مؤشِّراً إلى اندثار كلّ تلك الصفات، وصولاً إلى انعدام حسّ المسؤوليّة، الذي بانَ مع انكشاف أنّ مئات أطنان الأمونيوم التي رمَّدت المرفأ كانت متروكة في العنبر رقم 12 منذ ستّ سنوات بلا رقيبٍ أو حسيب.

حتّى الآن لا تزال الشكوك تحيط بطبيعة التحقيقات الجارية في الأسباب والعوامل التي أدّت إلى كارثة مرفأ بيروت، وتحديد المسؤوليّات عن حصولها. وسواء وصلت هذه التحقيقات إلى نتائج مُقنعة أم لا، فالوقائع المُتاحة تكشف أنّه ما كان لهذه الكارثة أن تحصل لو لم تكُن إدارة المرفأ أشبه بنسخة طبق الأصل عن شكل إدارة البلاد.

لقد جاء انفجار مرفأ بيروت بمثابة ضربة لنموذجٍ بديل عن ذلك الذي ميَّز لبنان الانفتاح والحيويّة والتسامُح، نموذج دفعت سياسات القائمين عليه منذ عقود في اتّجاه مَساره نحو النَّزع الأخير، من غير أن يثنيهم ذلك عن الإيغال في السياسات نفسها، وبأساليب تكاد تكون وحشيّة، من حيث إفقار الناس وسلْب مدّخراتهم، وضرْب الاستقرار والحريّات والإمعان في مُمارسات النهب والفساد.

لا حاجة للخوض في التحليلات التي توصِّف سقوطاً راكمت مَفاعيله سياسات ومُمارسات أفقدت لبنان ميزته ومَوقعه في المنطقة، وبات يدلّ عليه فشلٌ مزرٍ في الإدارة أدّى إلى انهيارٍ كارثيّ في المال والاقتصاد والخدمات وإفقار وبطالة. وعندما تتّضح الصورة بهذا الشكل يُصبح التحدّي الذي يُواجه مرفأ بيروت حاضراً ومستقبلاً، بحجْم تحدّي استعادة دَور لبنان العربي قبل أيّ اعتبار آخر.

أمّا إذا ما بقي لبنان يتعثّر على حافّة الهاوية، في السياسة والاقتصاد والإدارة، فإنّ من الصعب تخيُّل أن يستعيد المرفأ عافيته من بين أنقاضه، التي هي، بصورة رمزيّة، أنقاض الدولة التي كانها لبنان.

***

(*) كاتب من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *