روبير غانم: الشاعر الحقيقي العظيم لم يولد بعد! 

Views: 946

روبير غانم                

ماذا أكتُب في وطن، قَلَّ فيه الادب، وطغَت عليه السياسة البرصاء التفهاء القحلاء؟

ماذا أكتُب عن الشِعر، بعامة، وهو المؤهَّل لأن ينقلنا من الترابيّات إلى السماويّات، لكنّه، عبر هذه الموجة الطاغية من الشَحّ والقتامة المسخّفة، راح ينقلنا إلى مغاور الترّهات والمستنقعات؟

ماذا أكتُب عن الشعراء، لا بل عن “شعراء” من قطّاع طُرق الإبداع وخَوَنة الرؤى والإدهاش، وهُم متّهمون بجرم الخيانة الشعريّة العظمى، لأنهُم يشوّهون الذوق العام، يتلاعبون ويتحايلون على المخيّلات، ويشوّشون، ومصيرهم طبعًا إلى الكَبّ في سلّة نفايات التاريخ.

أيها السيدات والسادة: الشِعر وحده ينقلنا إلى مدائن البال، يمسح عنّا غبار ووحول الفجّار والعهّار والتجّار، وأيُّ مَسّ بجوهره، يعادل المَسّ بجوهر خالق الذي يُرى والذي لا يُرى.

من هنا تهيّبوا…تهيّبوا كثيرًا. زمن الإبداع العظيم قد ولّى: بهدلوه، شرشحوه، طعنوه في الصميم، وباعوه بالمزاد العلني في أسواق النخاسة والطَيش وظلمات الغيب والأنفاق والنفاق…

 

تهيّبوا..أجل تهيّبوا..فعظماء الشِعر، فعلاً، هم روّادنا في كشف المعرفة والمستحيلات، ومثل هؤلاء هم نادرون جدًا جدًا، منذ بداية الخليقة حتى هذه اللحظة بالذات. وربما في هذا العصر، ليس هناك شاعر عظيم في العالم كلّه. هناك مستنسَخون عن بعضهم البعض ليس أكثر، مع بعض التعديل في الاشكال والمضامين. فالمحاولون هم غير المبدعين. والنظّامون الرُككاء، هم غير الشعراء الذين يتوّحدون مع نُسوغ السماء. والمتطاولون على حرمة الشعر الخالد، هم غير المشتولين في مسافات الخَلق الرائد…فالشاعر الحقيقي العظيم، لم يولَد بعد. والقصيدة الحقيقية العظيمة، لم تُكتَب بعد.. أيها السيدات والسادة: هناك تحاولات وتحاوليّون، منذ بداية التاريخ المدوَّن، بعضهُم اجتاز فيضًا من المسافة، وآخرون سقطوا من قطار الألوهة الشعريّة، ولكن باب التحاول لم ولن يقفل، ومن هنا، فالبشريّة تنتظر “غودو” الشِعر الإلهي، وقد يأتي وقد لا يأتي… وإذا أتى يتغيّر وجه الكون وربما.. وربما قد أتى..من يدري؟؟ وقد بدأ التغيير الكَوني.

أيها السادة: الشعر سَفرةٌ إلى اللاتناهيات. إنه الوحيد المؤهل أن يزرعنا في حدائق المعرفة النورانيّة، التي تجعل لوجودنا المتوهَّم بامتياز، حضورًا، بامتياز أيضًا، على خريطة الكون.

وبعد، والمقولات والطروحات لا تنتهي إذا سافرنا في الاسهاب، هل نُحمِّل كل ما عَبَر، لأمير هليّل؟! المنطق السليم يقول: كلاّ.

فأمير، كما عرفته قليلاً وقرأت نتاجه الاوّل كثيرًا، لديه الكثير من عدّة الاقتحام الشعريّة، وهذه ميزة لا نجدها بسهولة عند المتطفلين والمقذّرين وَساعة الشِعر وضياءاته التي تمتّد من أزل إلى أبد.

الشاعر أمير هليّل

 

أمير هليّل، رغم انغماسه البارز جدًا في نتاجات سواه، وغَبّه من ينابيع آخرين، فلديه، رغم هذا، شاعريّته التي ستكون خاصة به، مع هطول أزمنة ليست بقليلة، ولديه أيضًا غرائبيته، وهذه سِمة بارزة يندرج تحت لوائها مع معظم ما سُجِّل على الورق، كما ما يرد في البال.

صادق، عفوّي النبرات والتطلّعات، مدرك صعوبة اقتحام هذا السهل الممتنع، المحظَّر دخوله إلاّ على الذين هم ملفوحون فعلاً بجرثومة الشاعريّة المقدّسة. وما يغايره عن سواه، إعترافه بأنه غَرَف من سواه، ولكن لحضوره الشعري ميزة لا نلاحظها سوى عند القلّة من مقتحمي هذا المجال السماوي، وهي أنه يحاول جاهدًا، وبعفويّة نابعة من أقاليم النَفس، أن يحقّق ذاته الشعريّة: بريئًا..بريئًا.. وكأنه لم يُصب بعد بما يشوّه الجوهر والمضامين. وعبر ههنا، نراه يبحث جاهدًا عن تحقيق لغته الخاصة به، التي عَبْرها، ستتشكّل لوحته الشعريّة التي ستتّسع خطوة خطوة لتحرق المراحل اليابسة، وتُضيء على عالم الوجدان في لبنان وما هو أبعد.

اللغة يا أمير، فصحى كانت أم عاميّة..أم تركستانية، أم لبنانية..إذا شئت، ليست سوى إناء، أي إنها تمثّل شكلانيّة الشِعر لا جوهره، برّانيّته لا جوّانيته التي تخترق المُطلق والمستحيلات، وأي شِعر لا يحاول اختراق المُطلق والمستحيلات، هو شعرٌ تتناثر أوراقه وظلاله مع الزمان، كما بدأت تتناثر أوراق وظلال هذه الموجة الفنيّة والادبيّة المعهّرة الملفوحة برياح الصهينة والتي يروّج لها سماسرة الارض والعَرض والكلمات…

لأمير حضور خاص بدأ يتجذّر في مسافات الشِعر…وله، تعالوا نقرأ بعضًا من شهيّاته وهي كثيرة، يقول:

سيوفنا كلمة لأ-/ حِكّ الريشي فوق الورقا/ فْلُوت الحبر بيعمل عجقا/ ويوقف شرطي زيح السطر/ يْمَشّي الحَكي يصيرو شِعر/-فقرُن صاير أغنا منَّك/-بْرِشّ عيوني تشمّ المُطلَق/ تسرُق نوم الناس وقومو/ هزّو الإشيا وهِزّ وإغمَق/ بِل مِش وقت وزيح غيومو/ -حزن الارض المارق فيّي/ عَلَّق حالو عَ عينيّي/ جسر النوم وجسر النَطرا/ قطعتُن باللحظا المطفيّي/- بْلِمّ خْيالي من الطرقات/ – بينده الرهبان/ يشلَحو النَعَس/ – وقمح السَوْرا يطحن حالو/… والكثير الكثير من مثل هذه الشهيّات.

 

يقول أمير “كل شي عظيم، شِعر” أكيد جدًا ما يقوله.. ويا أمير: بعد رحلتي الشعريّة التّي تخطّت النصف قرن.. وتلتها رحلتي الفلسفيّة في ما بعد، وصلت إلى مواجهة عقم اللغة، هذا في المُطلَق، وصرخت: “أعطوني لغة جديدة، كل لغات الارض لا تتّسع لأفكاري”، وكان أمامي أحد حلَّين: إمّا أن أحطّم قلمي وأكفّ عن الكتابة، وإمّا أن أفجّر اللغة من داخل لأسبُر المُطلَق والهنالكات… وعشرات الآخرين تحدثوا بإسهاب عمّا فعلت وحقّقت…

أمير، أيها الشاعر الذي تتكوَّن ذرّات إبداعه لحظة فلحظة، أنا، وليس بتحفُّظ كثير، أراهن عليك.. فالطريق ممهدّة أمامك-وقد مهّدتها أنت شخصيّا بعَرَق جبين كلماتك- وأبجديّة الكلمات تناديك.. فسِر لاكمال الرحلة.. إنها صعبة جدًا جدًا..ولكن وجعها جميل جميل.. وهو شبيه بمرض الحُب العظيم.. فهو مرض من دون شك، ولكنّه رائع جدًا، بل هو الاجمل بين الامراض كلّها، وهو موشّح بالعافية اللامرئية التي بدونها ليس للعالم نكهة. 

عزيزي أمير: هل نسيت أنك من كفرشيما التي أطلعت روّادًا كبارًا في مختلف مجالات الابداع.. ونحن لا ندري ماذا ستكون أنت في المستقبل! ولكنَّك “ستكون”!

أيها السيدات والسادة: لن تستقيم دروب البشريّة إلاّ إذا اعتنقت الشِعر أو ما يشبهه مبدأ وعقيدة… فهو وحده يطهرّنا، ينقذنا ويجعلنا فرسانًا نصهل في أزمنة اللاتناهيات.

أيها السادة: أحيّي الشِعر أخيرًا وأحييكم. والمجد له هذا الصاهل في مسافات النور. المجد للمعرفة والمجد كل المجد للبنان، الذي هو، أخيرًا وأولاً قصيدة الكون العظمى، التي ربما يزول الكون كله، ربما وهي..هي القصيدة وهو..هو لبنان، لا ولن يزول.

***

(*) كلمة روبير غانم في احتفال أمير هليّل حول ديوانه الشعري الاوّل “بكرا أنا لبنان” في نادي الادب والرياضة-كفرشيما الأحد 29 حزيران 2008                                               

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *