إشكاليات في الإنتاج المعرفي والدلالي للمصطلح النقدي الأدبي العربي المعاصر (الحلقة الأولى) [التَّعبير والتَّوصيل عبر فاعلية التَّرميز]

Views: 986

الدكتور وجيه فانوس

(دكتوراه في النَّقد الأدبي

رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

تأسيس

        ليس ثمة من لا يعترف بوجود أزمة مصطلح نقدي أدبي عربي معاصر؛ بل ليس،  بين المهتمين بهذا الأمر، من لا يسعى لأن يدلي بدلوه في هذا المجال. ولعل شدة هذا الحماس،  لمناقشة موضوع المصطلح النقدي الأدبي العربي، واتساع رقعة هذا النقاش العربية جغرافيا وفكريا، لا ينبعان من اعتبار إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرَّد موجة ثقافية أو أدبية سائدة، أو لأن الأمر محاولة للوقوف في وجه تيارات فكر وتعبير وافدة من خارج مجالات، ما قد يراه بعض الناس، الصبغة الأدبية والفكرية المحلية أو القومية. إن في هذا كله ما يؤكِّد إن الأمر بات حالة أساسية من حالات الثقافة الأدبية العربية المعاصرة؛ وهي  حالة  استطاعت أن  تفرض ذاتها بقوة وإلحاح على الخريطة الثقافية والفكرية والجغرافية لهذا  الوطن.

ثمَّة إجماعٌ على التوقُّف عند مشكلة المصطلح النقدي الأدبي العربي المعاصر؛ وثمَّة سعيٌ، من كل حدب وصوب، لتحديد جوانب هذا الموضوع؛  والعمل، تالياً، على معالجتها  أو معرفة كيفيَّة التعامل معها. ولعل من أبرز عوامل هذا السعي، إن المصطلح النقدي الأدبي، على ما فيه من إمكانية أو رحابة لِمَا يمكن أن يُعْرَف بالترميز الدلالي أو “التشفير“، لا يمكن له إلاَّ أن يكون أداة توصيل.  ويتميَّزُ المصطلح النقدي الأدبي، في هذا التوصيل، عن ما يمكن أن يكون عليه المصطلح العلمي، القائم على أساسيَّةِ البُعد الترميزي التجريدي، بأنه  توصيلٌ ثقافي،  أي توصيلٌ فاعلٌ في تكوين التَّفاعل  الذاتي  و الجَمعي للإنسان المتعامل  معه  أو به من خلال موقفِ هذا الإنسان من الحياة وشؤونها.  فالمصطلح النقدي الأدبي العربي المعاصر يعاني من عدد من التركيبات التشكليِّة والوظيفية المتعارضة فيما بينها، والتي يمكن أن تكون مصدراً لقيام عدد من الإشكاليات التي تحيط بوجوده. ومن أبرز هذه التركيبات والتشكلات الوظيفية إنَّ:

  • المصطلح النقدي، باعتباره مصطلحاً مؤلفاً من ألفاظ محددة، فهو مقيَّدٌ من جهة دلالته اللفظية؛ وباعتباره دلالة على قيمة فكرية قابلة للتفاعل والتغيُّر بحكم الواقع الذي يتعامل معها، فهو منفتح من جهة دلالاته الاجتماعية والجمالية.
  • المصطلح النقدي مؤثر بمضمونه على الفعل  الثقافي، في حين إن هذا المضمون ما برح يعاني من لبس وإبهام يحيطان بكثير من جوانبه.
  • مادة هذا المصطلح النقدي هي الأدب المحلي او القومي، بكل ما فيها من سمات ومفاهيم وقيم ثقافية وحضارية خاصة بها؛  وهو، في كثير من تشكُّلاته، نتاج بنايات فكرية من خارج هذا الإطار المحلي  أو القومي، ومن خارج ما يمكن أن يكون فيه من سمات وقيم ثقافية وحضارية.
  • هذا المصطلح ما برح وليد جهود فردية شخصية يقوم بها باحثون ونقَّاد على مسئولياتهم  الخاصة، وانطلاقاً من تجاربهم الثقافية الشخصية؛  وقلما يأتي نتيجة مسؤولية مؤسساتية ثقافية أو فكرية عامة.

ولِذا، فقد يمكنُ  للمرء أن يُقرِّرَ عدداً من الإشكاليات الناتجة عن  هذا  الوضع، والتي يمكن له أن يفيد من مناقشتها في إغناء سعيه لبحث موضوع المصطلح النقدي الأدبي العربي المعاصر. ولعلَّ من أبرز هذه الإشكاليات:

  • التعبير والتوصيل عبر فاعلية التشفير
  • المصطلح النقدي الأدبي بين الفعل المعرفي  وغربة المفهوم
  • ضرورة المحافظة على  المحليَّة أو القوميَّة   وحتميَّة   الانفتاح المؤدِّي إلى تجاوز  كثير من حدود المحليات أو القوميات
  • الواقع المعرفي العربي  المؤدي إلى حتمية الفردية في التجريب والتأسيس وضرورة الانتشار الجمعي للفعل الثقافي الإنساني

التعبير والتوصيل عبر فاعلية الترميز

إن ما يمكن أن يُطَلَب توصيله، في مجال المصطلح النقدي الأدبي بالذات، ليس سوى مادة معرفية واسعة الأفق الانفتاحي. إنَّها، بحكم وجودها وغائيتها، أي بحكم ارتباطها بجوهر النتاج  الأدبي وقيمه الاجتماعية والجمالية، وما يمكن  أن يحيط به من رؤى ذاتية وتوجهات  فكريَّة، مادة متطورة ومُطَوِّرة في آن.  وفي الوقت عينه، فإن هذه المادة تجنح،  بحكم تشكُّلها الترميزي أو “التشفيري” – إن جاز التعبير –  الذي لا  يمكنها إلاَّ أن  تُظْهِرُ وجودها من خلاله، إلى أن تكون لغة محدودة وذات أفق ضيق إن لم يكن ثابت.

إن المصطلح، باعتباره مؤلَّفاً من ألفاظ يُتَوَقَّعُ لها أن تكون ذات دلالة معينة، واحد من تمظهرات اللغة.  واللغة إمَّا أن تكون مشتركة بين جمهورها، فهي لغة عامَّة؛  أو أن تكون متَّفَقاً عليها بين مجموعة أو مجموعات معينة من  هذا الجمهور، فهي، في هذه الحال، اصطلاح.  وكما هو معروف، فاللغة ليست مجرَّد أداة تعبير وتوصيل وحسب؛ إذ هي، إضافة إلى هذا، دلالة على نمط تفكير نوعية تفاعل مستخدميها مع الموضوعات المطروحة.  ومن هنا، يمكن النظر إلى اللغة على اعتبار انها التشكُّل التَّرميزي الدَّال على وجود إنساني حقيقي،  متكاملٍ وفاعلٍ  في الوقت عينه.  وأهمية اللغة  تكمن، هاهنا، باعتبار إن هذا الإنسان، خاصة إذا ما كان صاحب مستوىً فكري معيَّن، قادر على تطوير اللغة التي يعتمدها،  أو تعديلها،  أو حتى رفضها وتغييرها؛ وبالتالي فهو قادر على تطوير  الأنماط الفكرية التي يعتمدها  أو يأنس إليها في ممارسة وجوده الإنساني أو تعديلها أو تغييرها.

إذا ما كان الأدبُ أحد تمظهرات اللغة، بل من أبرز تمظهراتها وأكثرها رقيا؛ فهو، أيضاً، تمظهر وجودي للإنسان الذي يتفاعل معه أو من خلاله. ومن هنا كان الإقبال على دراسة  النتاج الأدبي عبر الفعل النقدي الأدبي؛ ولذا، فإن المصطلح النقدي الأدبي يأتي، في هذا المجال، أحد ابرز الوسائل التي يتوقَّع منها القيام بهذه المهمة. وهنا يبرز قصور المصطلح، بشكل عام، عن تأدية وظيفته  المتوقعة منه: إنه، رغم ما في مضمونه من انفتاح، عاجز عن التأثير  والتواصل بحكم ما يعانيه من محدودية  ترميزية لا بد له  من المحافظة عليها  حتى لا يفقد هويته الاصطلاحية، فيخرج من  نطاق لغة  خاصة  ذات تميُّز  مضموني،  ليصبح  لغة  مشتركة  ذات عمومية  تكاد تكون مطلقة. ولذا، فقد ينتج عن هذا تولَّدُ مصطلحات  نقدية  جديدة، ضمن سياق نقدي متقارب أو متـنام، تشهد لهذه القابلية الانفتاحية المطلوبة باستمرار؛ وتظل، في الوقت عينه، محافظة على خصوصية الترميز الاصطلاحي.  وربما كان هذا ما أدَّى إلى إدراج  مصطلحات نقدية أدبية “جديدة” تعنى بالتعرف على النص الأدبي؛ فكان في “التحليل”، و”المناقشة”، و”المقاربة” ما يمكن أن يؤلف، على سبيل المثال، تطويراً أو تنويعاً مضمونياً  في فهم فعل التعرف على النص. لكن هذا،  وإن أدَّى خدمة للممارسة النقدية، بتعبيره عن بعض التوجهات فيها، فإنه أدَّى،  بسبب دلالته الترميزية إلى ضعف في توصيله لحقيقة هذا التطوير أو التنويع. وهذا الأمر يقود  إلى واقع يعانيه  المصطلح النقدي الأدبي العربي  المعاصر؛ إذ يواجه هذا المصطلح نوعاً من التناقض بين الفاعلية المعرفية التي يُفترض أن تكون فيه، وبين غربة المفهوم الذي يسعى تَشَكُّله الترميزي إلى تقديمه.

***

(*) وإلى اللقاء مع الحلقة التَّالية: “المصطلح النقدي الأدبي بين فاعليَّة المعرفة وغربة المفهوم

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *