معركة ترسيم الحدود… إنجاز جديد للجيش اللبناني

Views: 667

العميد الركن المتقاعد أنطون مراد

أخيرًا، بعد مطبّاتً سياسية كادت تطيح بتشكيله، انطلق الوفد اللبناني، برئاسة العميد الركن بسام ياسين وعضوية العقيد الركن البحري مازن بصبوص بالإضافة إلى المدنيين نجيب مسيحي ووسام شباط، بالمفاوضات مع العدو الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية. تمّ تحديد مهمة الوفد بموجب بيانين متطابقين، الأول أعلنه فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والثاني صدر عن قائد الجيش العماد جوزاف عون. المهمة هي بشكل واضح وصريح اعتماد الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة ويمتد بحراً باتباع تقنية خط الوسط دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلّة.

استند فخامة الرئيس على دراسة أعدّتها قيادة الجيش تتطابق مع دراسة مكتب الهيدروغرافيا البريطاني في العام 2011 .  تستند هذه الدراسة على قانون البحار وعلى عشرات الأمثلة عن حالات مماثلة للوضع اللبناني، وتُعطي لبنان حوالى 1430 كيلومتراً مربعاً جنوب النقطة (23). قرّر فخامة الرئيس تعديل المرسوم رقم 6433 تاريخ 1/ 10/ 2011 وإبلاغ التعديل للأمم المتحدة، فحاول طرح هذا المشروع على مجلس الوزراء بتاريخ 21/7/2020 لكن بعض الوزراء طلبوا تأجيله للتمكّن من دراسته بشكلٍ وافٍ وجاء بعدها انفجار مرفأ بيروت بتاريخ 4/ 8/ 2020 وما تلاه من استقالة للحكومة فلم يُعدّل المرسوم، إلاّ أن بياني رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وتعميمهما على الشعب اللبناني فرضا أمرًا واقعًا لبدء المفاوضات من الخط الذي يعطي لبنان الحد الاقصى وفقا للقانون الدولي، بحسب مرجع قانوني.

أما لماذا تأخّرت السلطات اللبنانية عن الاقتناع بهذه الخطوة تسع سنوات وقد سمع أصحاب القرار بشكل واضح الآراء التي تنادي بحق لبنان جنوب النقطة (23) ومنها دراسة UKKHO 2011 ومواقف وزير التربية الحالي القاضي طارق المجذوب التي عرضها على لجنة الأشغال النيابية في حزيران من العام 2011 قبل صدور القانون رقم 163 تاريخ 18/ 8/ 2011 المتعلّق بتحديد واعلان المناطق البحرية اللبنانية  وقبل صدور المرسوم رقم 6433 تاريخ 1/ 10/ 2011 المتعلّق بتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بالإضافة إلى دراسة أعدّها العقيد الركن البحري مازن بصبوص وعرضها على رؤسائه لكنهم لم يأخذوا بها في حينه لأسباب مختلفة.

 

ماذا تغيّر حتى وافقت السلطات اللبنانية على ما كان معروضًا عليها منذ تسع سنوات؟ بكل بساطة ساهمت أربعة عوامل في ذلك:

  • اقتناع العقيد الركن البحري مازن بصبوص بصوابية دراسته وإصراره على إقناع رؤسائه بها إيمانًا منه بأنها تساهم في الحفاظ على الحقوق اللبنانية التي يعتبرها مقدّسة، فاستفاد من تبدّل الأشخاص الذين كانوا يصرّون على اعتماد النقطة (23) والذين كانوا يتصدّون بضراوة لأية نظرية معاكسة وعرَضَ دراسته مجدّدًا على قيادة الجيش.
  • عرض قائد الجيش العماد جوزاف عون الدراسة على لجنة من الضباط في قيادة الجيشعمدت إلى مناقشتها وتطويرها، وتبنّيها وعرضها على فخامة رئيس الجمهورية بعد عرضها على خبراء في القانون الدولي والتأكّد أنها مدعّمة قانونيًا.هنا، من المستغرَب والمستهجَن أن ينبري مسؤولون سياسيون وعسكريون في السابق ليدافعواعن عدم أحقية لبنان جنوب النقطة (23)، ربما هربًا من اعترافهم بالخطأ الذي ارتكبوه أو لحسابات شخصية سلطوية.
  • اقتناع فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالدراسة التي أعدّتها قيادة الجيش وقد ساهم في إقناعه عضو الوفد المفاوض نجيب مسيحي الذي، بحسب مصدر مطّلع وموثوق، هو خبير ممتاز في القانون الدولي وفن التفاوض ومتحمّس لتحصيل الحد الأقصى من الحقوق اللبنانية، ومن أشدّ الداعمين لدراسة العقيد البحري مازن بصبوص. ولكن للأسف أدّت الانقسامات الداخلية إلى دفع بعض القوى السياسية إلى شنّ هجومٍ عنيفٍ عليه وصل إلى حدّ التشكيك بوطنيته.

إذًا، المهمة واضحة ولكن كيف سيستطيع الوفد اللبناني فرض هذا المنطق القانوني على العدو الإسرائيلي الذي لا يحترم القوانين الدولية ويستند دائمًا على منطق القوة لا على قوة المنطق.

الأربعاء في الثامن والعشرين من تشرين الأول، خاض الوفد اللبناني المجابهة الأولى في معركة التفاوض حول ترسيم الحدود. رئيس الوفد العميد الركن بسام ياسين هو رأس الحربة في الهجوم وإلى جانبه ركنا الدفاع، العقيد الركن البحري مازن بصبوص من الناحية التقنية ونجيب مسيحي من الناحية القانونية، أما وسام شباط فيتولى حاليًا مهمة حارس المرمى بانتظار الانتقال لاحقًا إلى مهمة الدفاع ضمن اختصاصه كعضو في هيئة إدارة قطاع البترول عن حقوق لبنان في مكامن النفط والغاز تحت الخط المرسوم.

خاض الوفد اللبناني المجابهة الأولى متسلّحًا بوطنيته العالية وبملفّه المدعّم قانونيًا وبإيمانه بأنه صاحب حق في كل النقاط التي ينطلق منها وفق التوجيهات الرسمية المعطاة له ودافع عن موقفه على الشكل التالي:

  • بالنسبة للانطلاق من نقطة رأس الناقورة: أوضح أن هذه النقطة مذكورة في ترسيم بوليه – نيو كومب في العام 1923 بشكل وصف“ The frontier leaves the méditerranéan sea at the point called Ras el Nakoura,and follows the crest of the spur to crain 1…”. كذلك تمّ التأكيد عليها في اتفاقية الهدنة عام 1949 حيث تم وضع نقطة وسيطة تسمى B1 تدل على نقطة رأس الناقورة، وتم تحديد إحداثياتها بدقة عالية لا تقبل الشك. أما بالنسبة إلى الخط الأزرق، فالنقطة (B1) هي الأولى في لائحة إحداثيات الخط الأزرق الرقمي وإحداثياتها مطابقة لإحداثيات العام 1949.
  • بالنسبة إلى اعتماد تقنية خط الوسط دون احتساب تأثير الجزر: أوضح أن هذه التقنية تستند إلى قانون البحار، وقد استخدمها مكتب الهيدروغرافيا البريطاني UKHO في العام 2011 كما استخدمها فريدريك هوف في رسمه خط الفصل البحري العام 2012.
  • بالنسبة إلى عدم احتساب أي تأثير للجزر الساحلية: هنا كانت المواجهة الأصعب، خاضها الوفد اللبناني بضراوة فشرح الدراسة التي أعدّتها قيادة الجيش وتعتمد خط الوسط دون احتساب جزيرة تخيليت التي يكسب لبنان من خلالها مساحة إضافية تقدّر بحوالى 1430 كلم مربع جنوب الخط المعلن الحالي(النقطة 23)، وأوضح أنه لم يحتسب جزيرة تخيلت والجزر الأخرى التي تقع جنوبها كونها صغيرة الحجم وغير مأهولة، وأعطى عشرات الأمثلة حول حالات مماثلة اعتمدتها الدول لترسيم حدودها البحرية باعتماد طريقة خط الوسط دون احتساب تأثير الجزر. أما بخصوص المطالبة بالخط الجديد فقد أوضح الوفد اللبناني أنه استند إلى المادة الثالثة من المرسوم رقم 6433 التي تُجيز للبنان إعادة النظر بحدوده في حال ظهرت معطيات جديدة أكثر دقة. وهذا ما حصل بعد أن قامت مصلحة الهيدرغرافيا في الجيش اللبناني في العام 2018 بمسح نقاط خط الأساس في منطقة الناقورة.

خاض الوفد اللبناني دفاعه بطريقة ممتازة، وقد استمع الوفد الإسرائيلي بدقة إلى الموقف اللبناني ووعد بعرضه على المراجع المختصة على أن يوضح موقفه في الاجتماع الذي تقرّر في اليوم التالي ( الخميس 29 تشرين الأول). فهل ستكون مهمة إقناعه بالمنطق اللبناني سهلة؟ طبعًا لا، ستكون المهمة شاقة لأن العدو الإسرائيلي معروف بعدم احترامه للقوانين. لذا، سيلجأ إلى الأساليب الاحتيالية التالية:

  • بالنسبة للانطلاق من نقطة رأس الناقورة: سيرفض الاعتراف بإحداثيات النقطة B1 التي تدل على نقطة رأس الناقورة بحسب المستندات الموجودة بحوزة الوفد اللبناني، وقد ظهرت نواياه في العام 2000 حين رفض العودة إلى حدود العام 1923 وتنكّر لوثائق اتفاقية الهدنة، وقد ساعدته الأمم المتّحدة، من خلال عدم إظهارها المستندات المودعة لديها ومنها كتاب النقاط الحدودية الذي أعدته اللجنة المشتركة للهدنة بحجّة أن هذا الكتاب قد تعرّض للتلف.أما بالنسبة للخط الأزرق الرقمي، أعلن العدو الإسرائيلي في العام 2006 عدم اعترافه به والاعتراف بالخط الظاهر على الخريطة الورقية، فقط، حيث تزيد السماكة عن المليمتر أي ما يعادل 50 مترًا على الأرض، وللأسف لم تأخذ الأمم المتّحدة موقفًا حاسمًا رغم أنها هي التي وضعت الخط الأزرق وتشدّد على احترامه في جميع قراراتها ولا سيما القرار رقم 1701.
  • بالنسبة إلى اعتماد تقنية خط الوسط: سيوافق على اعتمادها لا بل سيتمسك بها ولكن وفق معطياته الخاصة بهدف الدفع في اتجاه ترجيح مقترح هوف ورمي الكرة في الملعب الأميركي.
  • بالنسبة إلى عدم احتساب أي تأثير للجزر الساحلية: سيرفض بشدّة هذا البند وسيستند إلى قانون البحار لإثبات قانونية إعطاء جزيرة تخيليت التأثير الكامل. ولا عجب في ذلك، ففي العام 2008، استندت اللجنة اللبنانية المشتركة أيضًا إلى قانون البحار وأعطت طوعًا التأثير الكامل لهذه الجزيرة وذلك بسبب جهل المعنيين حينها بطرق الترسيم والاعتماد فقط على الدراسات الاجنبية كدراسة UKHO/2006. هذا إذا سلّمنا جدلاً أن العدو الإسرائيلي سيعتمد النقاش القانوني ولكن تاريخ هذا العدو في المراوغة غير مشجّع، فعلى الأرجح سيتّهم الجانب اللبناني بعدم الثبات على موقف واحد، باعتبارأنه اختار النقطة رقم (1) في العام 2007 ثم اختار النقطة رقم (23) في العام 2008 واليوم يطالب بنقطة جنوب النقطة (23). هنا سيستغلّ العدو الإسرائيلي أسلحته الاحتيالية لإظهار لبنان بمظهر المعرِقل وإظهار نفسه بمظهر المرن والمساعد، وسيرمي الكرة في ملعب الأمم المتّحدة التي ترعى التفاوض والفريق الأميركي الذي يلعب دور الوسيط. والأرجح أن هذين الفريقين لن يلعبا دورًا إيجابيًا لصالح لبنان.

إذًا، المنازلة ستكون صعبة جدّا وستكون المؤشّر الأول لطريق طويلٍ مزروع بالأفخاخ. فما هي القوة التي قد تساعد الوفد اللبناني على فرض منطقه واستعادة الحقوق اللبنانية المغتصَبة؟ في حال أجبر الموقف اللبناني الجديد الشركات العالمية على وقف العمل في حقل كاريش، ستكون إسرائيل مُحرَجة وستُظهِر المزيد من المرونة. أما في حال العكس فلن تكون مستعجلة وسيكون على لبنان القبول بما يتمكّن الوصول إليه في عملية التفاوض، خاصةً في ظل الأزمات التي تعصف به ومنها الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة.

 

في العاشر من تشرين الأول 2006 ارتكب لبنان الخطأ الفادح فوقع في فخّ العدو الإسرائيلي لحظة وقّع على محاضر الاجتماعات حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص انطلاقًا من النقطة رقم (1)، فهل سيتمكّن الوفد اللبناني في التاسع والعشرين من تشرين الأول 2020 من تصحيح هذا الخطأ؟ وهل سيتمكّن، في غضون ستة أشهر، من إقناع العدو الإسرائيلي بمنطقه الجديد الذي كلّفه تسع سنوات لإقناع السلطات اللبنانية به؟

في النهاية، نحن بحاجة لسلطة سياسية موحّدة لاتخاذ قرارات جريئة. المهمة وطنية بامتياز ولا تحتمل التجاذبات السياسية. لا شك في أن الانطلاق من خط يقع جنوب النقطة (23) هو لتحسين شروط الوفد اللبناني المفاوض، ولكن حذارِ النوايا السيئة والحسابات السياسية الضيقة التي قد يلجأ أصحابها إلى التعاطي مع النتيجة بسلبية، والإضاءة على المساحة بين نقطة الإنطلاق في التفاوض والنقطة التي يتم التوافق عليها واعتبارها بمثابة تنازلٍ قام به الوفد اللبناني، في حين أن الصحيح هو أن هذا الوفد وسّع هامش التفاوض من خلال انطلاقه من خط يقع جنوب النقطة (23)، ولكن التفاوض يتخلّله مدّ وجزر للوصول الى الحل العادل وفقا للقانون الدولي وهذا لا يعدّ تنازلاً. الصحيح هنا هو حساب المساحة بين النقطة (1) والنقطة التي سيتم التوافق عليها وبالتالي اعتبارها بمثابة إنجاز للبنان وللوفد اللبناني المفاوض.

على القوى السياسية تذكّر أن ثمة من تسبّب بالخطأ إن لم نقل الأخطاء، وأن الوفد اللبناني يعمل على تصحيح أخطاء غيره. لذا، على هذه القوى تأمين دعم مطلق للجيش اللبناني وعدم التصويب عليه بهدف تحقيق مكاسب سياسية ضيّقة على حساب المصلحة الوطنية العليا.

أخيرًا، أيًا تكن النتيجة فهي ستكون إنجازًا جديدًا يضاف إلى إنجازات جيشنا البطل.هناك جنود مجهولون كانوا وراء إعلان بياني قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية، منهم من تابع الملف خطوة بخطوة، ومنهم من حضّر هذا الملف وجمع وثائقه وقام باقتراح المناسب، ومنهم من اكتشف أهمية موقع النقطة B1 للدلالة على موقع نقطة رأس الناقورة، ومنهم من قام بمسح خط الأساس في الناقورة بظروف صعبة جدا، ومنهم من عمل بجد لاعطاء الطابع القانوني لدراسة قيادة الجيش، ومنهم من عمل جاهدًا لتعديل المرسوم 6433/2011 للمطالبة بمساحات إضافية للبنان، ومنهم آخرون كُثر سوف تكشف الأيام أسماءهم وجهودهم الجبارة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *